ولم يكن ليستطيع عرابي أن يتعهد بمثل هذا التعهد ولن ليستطيع ذلك غير عرابي من الناس، ولو أنه فعل ذلك لأجرم في حق هذا الوطن جريمة ما كان ليغفرها له التاريخ. . وكيف يفعل ذلك عرابي أو أي رجل غيره ولا يكون بذلك مجرماً مفرطاً في جنب وطنه؟ وأي فرق بين مثل هذا التعهد وبين المروق والخيانة والجمود في أوضح صورها وأقبحها؟
ألا إنه الحق كل الحق أن يطلب إلى بني الوطن ألا يتدخلوا في أعمال الحكومة، ولكن على شرط ألا يكون من تلك الأعمال نفسها ما يحفز الناس إلى التدخل أو يوجبه عليهم. أما أن تفرط الحكومات في حق الوطن، وأما أن توضع العقبات في سبيل قضيته ثم يطلب إلى الناس بعد ذلك أن يدعوا الحكومة وشأنها فهذا هو الباطل بأجلى معانيه وأشدها فجوراً، ومن أطاع ذلك من الناس فقد أجرم في حق بلاده وضل ضلالاً بعيداً
لن يكون لقيام الحكومات من مبرر إلا العمل لخير المحكومين وصلاح أمرهم. على هذا الأساس ولدت الديمقراطية، وبهذا المبدأ اقترنت الحرية؛ ولكم نادى بذلك القادة ودعاة الإنسانية في الغرب منذ هدموا صروح الظلم وحطموا أغلال الماضي وفصموا سلاسل الرجعية. وما لنا نستشهد بالغرب وهذه الحكومة الإسلامية الأولى التي قامت في الصحراء قد جعلت تلك المبادئ أساس قيامها، فما أروع وأجمل أن يقول الخليفة الأولى للناس:(أيها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن حرفت فقوموني) وإن يقول لهم الخليفة الثاني: (من رأى منكم في اعوجاجاً فليقومه) فيرد عليه أعرابي من أوزاع الناس بقوله: (لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا) وما أملى على أبي بكر وعمر هذه المعاني السامية وما أمدهما بتلك السياسة العالية إلا ما ألهماه من روح تلك الشريعة السمحة، شريعة دينهما التي تقدم بهذا أحد براهينها على أنها شريعة الفطرة، فما كانت الحرية في شتى مظاهرها إلا بنت الفطرة. . . وأبلغ وأروع من قول أبي بكر وعمر قول الرسول الكريم:(إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده)
قبل عرابي أن يدع الحكومة وشأنها على أن تجري الأمور وفق ما وضعته الثورة من مبادئ، فكيف لعمر الحق كان يستطيع أن يحمل على السكوت نفسه وقد رأى من الدسائس الأثيمة التي تحاك حول تلك الحرية الوليدة ما أغضب أكثر الناس اعتدالاً وأقلهم علاقة