يبحثها وتشبعت روحه بها، فلا أقل من أن يضع بين يدي طلاب الثقافة عصارتها، ومن ثم كان الكتاب سهلاً سائغاً يحبه القارئ وتلذه قراءته. ولا يفرغ منه إلا ليقرأه من جديد.
هناك نقطة أخرى، هي الحقائق لا أكثر ولا أقل، يسود المؤلفون بها صحائف الكتب ويلقونها على تلاميذهم دون أن يحاولوا استخلاص الآراء التي تحتجب وراءها، أو بمعنى أخر دون أن يعلقوا عليها التعليق الذي يجعلها تفيض نضارة وحياة وقوة. إلى هذا كله فطن الأستاذ حسن جلال، فلم يكن يهمه في كتابه أن يعلم القارئ أن مئات الحوادث قد وقعت، ولكن يهمه أن يصل بالقارئ إلى ظروف حدوثها وكيف كان يفكر أبطالها، ثم إلى أي حد كتب لهم التوفيق ولماذا أصابهم النجاح أو ضرب عليهم الفشل، ونرى في (حياة نابليون) أن الأستاذ المؤلف يوجه القارئ بواسطة المعلومات التي ساقها في مهارة ولباقة فائقين، إلى سبل التطور وتتبعها، وتفهم الأصول الاجتماعية والسياسية والخلقية والعقلية والاقتصادية التي أحاطت بالعصر الذي عاش فيه نابليون. أما مادة الكتاب فلم يكن الأستاذ مخترعاً لها، فالتاريخ إنما يستخلص من المراجع، ولكنا نجد بعض المؤلفين ينقلون صحائف برمتها من هذه المراجع، ثم يكتبون صحائف أخرى بأنفسهم، فلا نجد انسجاماً بين أجزاء الكتاب الواحد. والقارئ لكتاب الأستاذ جلال يلمس مهارة المؤلف في اختيار مادة كتابه، ويلمس كذلك الترتيب المنطقي للمعلومات، وتبدو شخصية المؤلف الذارة وروحه الخفيفة قويتين بحيث لا نميز خلالهما روح مؤلف ممن رجع إليهم، كل هذا برغم أن الكتابة عن الأشخاص في نظري أبعد أنواع الكتابة التاريخية منالاً.
وليس عجيباً أن يكون الأستاذ هادئاً بطبعه، ولكن العجيب أن يكون هادئاً حتى وهو يكتب هذه الحياة العاصفة، لا يميل مع الإنجليزي الذي يمثل نابليون أفعى نفثت سمومها، ولا مع الفرنسي الذي يصور الرجل من قادة البشر إلى الجريمة والإخاء والمساواة، بل يجلس الأستاذ بينهما مجلس القضاء.
ومهارة الأستاذ في القصص، تفوق مهارته في التاريخ، فأنت حين تقرأ وصفه للقاء نابليون بجزفين بعد عودته من مصر، تنسى التاريخ وتنسى كل شيء إلا ذلك التصوير الرائع، ولكنك لا تكاد تنتهي منه حتى تصدمك عنوانات تاريخية جافة (حالة فرنسا في غياب بونابرت - انقلاب برومير - دستور ١٧٩٩) فتوقظك من ذلك الحلم وتعيدك إلى حظيرة