يأخذ في بحثها وتمحيصها بكل ما يملك من وسائل. كذلك الأخلاقي يجب أن يبدأ بحثه من التقاليد فيمحصها ويزنها بما تمده به تجاربه الخاصة والحقائق الدينية التي لا ريب فيها والضمير القادر على الحكم الصحيح. بعض هذه الأفكار التقليدية توسع من قلوبنا وعقولنا، وتبث فينا يقيناً شريفاً وسعادة نبيلة، ونحن بعد تمحيصها لا يسعنا أن نضعها موضع الشك، كما لا يشك العالم في فروض محصها وظهر له صحتها
حقاً يجب السير مما اتفق عليه الأديان ثم من التقاليد؛ فالحياة تولد من الحياة، حياتنا الأخلاقية لم نبتدعها بل جاءتنا من حياة أسلافنا الأخلاقية إلى حدّ ما، فمن الادعاء والعبث الذي لا معنى له أن يهمل باحث كل تجارب الإنسانية الأخلاقية. ومن الغباء أن يزعم أحد قدرته وحده على أن ينشئ أخلاقاً، كما ليس في مكنة أحد أن يبني وحده علم الهندسة أو الطبيعة مثلاً
لكن حذار أن نقتصر على تقاليد البيئة الأسرية أو القومية الخاصة. يجب أن يعنى الباحث الأخلاقي بتقاليد الأمة كلها فيجتهد في تعرف أصولها في زوايا الماضي البعيد والقريب وآثارها في الحاضر؛ ومن ثم يكون لعلم التاريخ فائدته وخطره وخاصة تاريخ الفلسفة والأديان. على أنه ليس للمرء أن يحد نفسه باستشارة المكاتب؛ عليه أن يخالط - مصغياً مستطلعاً باحثاً - المساجد والكنائس وسائر دور الدين بلا تمييز، وألا ينسى المجتمعات المختلفة للأوساط الاجتماعية، بعد هذا يجب أن يبحث ويقارن ويحقق ما جمعه بهذه الوسائل من الآراء والنظريات الأخلاقية المختلفة وأن يستخلص منها ما يكون متماثلاً ومشتركاً، ويختار من بينها الأصلح حينما تتعارض حسب تجار يبه وضميره وفكرة المنزه عن الهوى
بعد هذا أيضاً يجب ألا يكتفي بتقاليد أمته وجنسه، بل يكون واسع الأفق عالمي البحث حتى يصل إلى مبادئ يمكن الحكم بصلاحيتها للجميع. والسياحة بما تهيئ لنا من فرصة تعرف تقاليد الأمم والشعوب المختلفة الدينية والاجتماعية في مواطنها الخاصة يمكن أن تمدنا بهذا البحث الأخلاقي الواسع الدقيق بمبادئ أخلاقية عامة لها قيمتها وخطرها. من أجل هذا يقول أحد الكتاب الإنجليز - بعد ما ساح كثيراً بين أوربا وأمريكا وأقام أخيراً باليابان - ما دمنا معاشر الأوربيين لم نعش إلا في نصف الكرة، فليس لنا إلا أنصاف أفكار وآراء).