تقليد هذه الأصوات، فإذا لم يشعرك الفيلونسيل بهذه المعاني التي نحدثك عنها، فإنه عجز المادة عن قياس النفس ووزنها، ولا بد لك إذن من الاستعانة بجهاز يشبه الحيوان من حيث وجود النفس فيه، وليكن هذا الجهاز إنساناً مغنياً؛ أو إنساناً ممثلاً تطلب منه أن يقلد لك أصوات الخراف ليلة العيد تقليداً أميناً فيه الصوت وفيه ما يبعث الصوت من الشعور.
. . . وهنا تعجل أستاذنا وقطع علينا الطريق متسائلاً:
- فإذا لم أشعر بما تشعرون؟
فقذفنا بها عندئذ مجبرين وقلناها محرجين:
- لا يمكن أن يكون هذا إلا إذا كان في الناس فريق يشعرون وفريق لا يشعرون وإن كانوا يعقلون.
. . . وعادت إلى الأستاذ طيبته، وعاد إليه تواضعه فسألنا كمن يريد أن يعرف:
وهل في الناس حقاً من يشعرون؟
ولم ندهش لهذا السؤال، فقد صدر من عالم، فقلنا له: نعم يا سيدنا الأستاذ. نقسم لك بالله أن في الناس من يشعرون بأضاحي العيد. بل أن فيهم من يشعر كأضاحي العيد.
. . فذعر الأستاذ لهذا، وضاق عقله عنه، وسأل من فمه سؤال أبله معتوه وقال: إذا كان هذا حقاً. . . فكيف يحدث. . . هل تعرفون؟!
فتبادلنا فيما بيننا النظرات لأننا كنا نظن أن العلماء مهما جمدوا بعقولهم دون الحق فإنهم يستطيعون أن يستنبطوا أسباب المظاهر التي يلمسونها ما دامت ظاهرة لهم، وما داموا يلمسونها، وما دامت لهم عقول، وما داموا يقولون إن عقولهم تكفيهم وتهديهم وتلبي مطالبهم وحاجاتهم. . . وكنا نظن هذا لأننا نسينا أن سادتنا العلماء ينفضون أيديهم من العلم ما انفلتوا من معاملهم وما نفضوا أيديهم من مقاييسهم وموازينهم وأجهزتهم. . . وجل من لا ينسى. . . ولكننا عدنا فذكرناه وقلنا لسيدنا الذي هجر الشعر رأسه إلى لحيته:
- أنتم صدقتم داروين حين قال لكم إن بدن الإنسان تطور من بدن الحيوان، ثم صدقتم علماء آخرين قالوا لكم إن جنين الإنسان يمر في بطن أمه بالأدوار التي مرت بها الإنسانية في سلسلة رقيها، فهو يبدأ خلية ثم دودة ثم زاحفة حتى يتم تكونه الإنساني فينقذف إلى الحياة إنساناً ولكنه يمشي على أربع، إنساناً ولكنه أبكم، إنساناً ولكنه بلا عقل. فلماذا لا