نعود الآن بالقارئ إلى فكرة ليبنز من أن الحركة بين جزيئات السائل التي ذكرت للقارئ إمكان رؤيتها عملياً، لا تسبب الحرارة بل إنها هي الحرارة نفسها، فنقرر أن اختلاف إحساسنا للحرارة عن إحساسنا للحركة لا يدل على أن الظاهرتين مختلفتان، والواقع أن بين أعصابنا ما يجعل شعورنا يختلف إزاء الحركة أو الذبذبة المستمرة للجزيئات، فلا نسجلها كشعور للضغط ولكن كشعور لكمية جديدة نسميها الحرارة
هذا الجمع بين الظاهرتين في ظاهرة واحدة يعد تقدماً كبيراً للعلوم وللإنسان وريث هذه العلوم، ولا شك أن النجاح العلمي معقود اليوم على ربط الظواهر الطبيعية بعضها ببعض وإزعاجها ما أمكن إلى أصل واحد، وعند ظني أن ليبنز وبيران وغيرهما يقدمون بهذا النوع من التوحيد في الظواهر الطبيعية من الخدمات للإنسان أكثر من هؤلاء الذين اخترعوا لنا القاطرة أو الطائرة
أن نترك على جريدة موضوعة على منضدة كوباً من الماء فيهب النسيم بشدة على هذه الجريدة فيرفعها بعنف ويرفع معها الكوب فيقع على الأرض ويتدفق منه الماء - أمر لا يدهش. ولكن أن نعرف حركة ما بداخل الكوب من جزيئات ونعرف أن هذه الحركة هي ظاهرة الحرارة - أمر يعتبر في صميم تقدم معارف البشر
كذلك أن ترفعنا قطعة من الألمونيوم، رتبنا فيها مقاعد للجلوس، من الأرض إلى طبقات الهواء، وأن نجعل الظروف الطبيعية التي وقعت على الجريدة والكوب من رفع الهواء لهما ظروفاً مستمرة بالنسبة لقطعة الألمونيوم فنسافر على هذه القطعة من القاهرة إلى الإسكندرية أو من القاهرة إلى لوندرة وذلك بالسيطرة على عاملين: العامل الأول دائرة كارنو واحتراق البنزين، والعامل الثاني دوران المروحة لدفع الهواء - مسائل يجب ألا تدهشنا ولا نعتبر أنها ذهبت بنا بعيداً في التقدم - وأما أن نعرف ما يدعونا إليه ليبنز وأمثاله، وأما أن نعرف طبائع المسائل ونرجع بالظواهر إلى صورها الحقيقية، وأما أن نحاول توحيداً في ظواهر الكون، فإن هذه خطوات جريئة إلى الأمام.
وعند ظني أنه في اليوم الذي يُرجع فيه العلماء كل مظاهر الكون إلى قليل من الظواهر، وكل جزيئاته إلى قليل من العوامل والمكونات الأولى، نكون قد صعدنا أرفع الدرجات في