الحريري ومقامات بديع الزمان لأدرك بلا شك أن لهذين الرجلين غاية ما كان يصح أن تخفى على رجل يؤرخ الأدب بالجامعة المصرية.
فما هي تلك الغاية؟
هي غاية واضحة لمن يقرأ ويفهم، وهو بحمد الله ممن يقرءون ويفهمون، ولكنه لم يقرأ المقامات
الغرض من نظم المقامات عند بديع الزمان هو نقد الحياة الاجتماعية والأدبية في القرن الرابع. وفي سبيل هذا الغرض تعرض بديع الزمان لوصف ما رآه في زمانه من مثالب وعيوب، واهتم بتدوين ما عاناه الناس في تلك الأيام من حيل الدجالين والمشعوذين. وقد وصل إلى أبعد حدود الإجادة حين حدثنا عما كان يعرف أهل ذلك العصر من فنون الأدب ومذاهب المعاش، ولم يفته أن يقيد حيل اللصوص في تلك الأيام، بحيث صارت مقاماته سجلاً صادقاً لبعض أحوال المجتمع في القرن الرابع بأقطار فارس والعراق
وكذلك كان الغرض عند الحريري، فقد أراد أن يصور ما عرف الناس لعهده من ألوان الحياة، وأن يبين كيف كانوا يجدون وكيف كانوا يمزحون
وهناك غاية ثانية عند الحريري لم يفطن لها الأستاذ أحمد أمين وهي تقييد ما شاع في زمانه من ضروب الرموز والكنايات
ولا موجب لإيراد الشواهد، فسيعرف ذلك أحمد أمين حين يقرأ تلك المقامات
٢ - ونلاحظ ثانيا أن أحمد أمين غفل عن نظرية تعد من البديهيات، وهي أول ما يدرس طلبة الكليات، وهي النظرية التي تقول بأن للفن والأدب غاية أصيلة هي الصدق في وصف ما ترى العيون، وما تحس القلوب، وما تدرك العقول؛ وليس من الحتم أن يكون الأدب والفن جنديين في جيش الأخلاق، فبعض أشعار ديك الجن وأبي نواس أرفع قيمة من بعض ما كتب ابن مسكويه والغزالي، أرفع من الوجهة الأدبية والفنية، وأن كانت أضعف من الوجهة الدينية والخلقية
٣ - ونلاحظ ثالثاً أن أحمد أمين ينظر إلى الأخلاق نظرة سطحية، فلو أنه كان تعمق في دراسة الأخلاق لعرف أن الأخلاق تغلب عليها الصفة الاعتبارية، فما نعيبه اليوم من طرائق التعبير لا يجب أن يكون كذلك في أذهان من سبقنا من الأدباء في الأعصر