تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريما)، ولعل هذا هو مراد من أفتى برفع الحرج عن تلك الأمور، فيكون مرادها أن إثمها يكفر عنهم، لا أنه لا إثم فيها، وفرق كبير بين الأمرين، لأن في رفع الإثم عنها إذناً بفعلها، أما تكفيرها بذلك فيبقيها على حرمتها، وليس فيه إذن بذلك الفعل، لأنه لا يصح لأحد أن يفعل ما حرم عليه اعتماداً على الوعد بتكفيره، وهذا إلى أن الإصرار على الصغائر قد يجعلها من الكبائر، فلا ينفع فيها ذلك التكفير، ولا يفيد فيها إلا التوبة عنها
وهذا هو رأيي في ذلك الحب العذري، وإذا كان فيه بعض القسوة على أولئك العشاق، فهو غاية ما يمكن أن يتساهل فيه معهم. وإني أرى أن هناك قوماً قد يقع ما يكون في ذلك الحب من الإثم عليهم أكثر مما يقع على ذلك العشاق أنفسهم، وهم الآباء أو الاخوة الذين يرون في زواج أولئك العشاق فضيحة أو عاراً، فيحولون بين زواجهم، ويعملون على إذكاء نار الحب بذلك المنع، وعلى وجود الفضيحة والعار من حيث يريدون الفرار منهما. وقد كان زواج أولئك العشاق هو السبيل إلى إطفاء نار ذلك العشق، وصيانة المجتمع من الاشتغال بأخباره وأحاديثه، وما فيها من هتك العرض، والاستهتار بتلك الصغائر. وإني أرى أن ما كانوا يفعلونه من ذلك ليس إلا من بقايا عوائدهم في الجاهلية فلا يقره الإسلام، ولا يأذن بتلك القسوة التي يدعو إليها الجهل، بل يندب إلى ذلك الزواج، ويثيب كل من يعمل على إنصاف أولئك العشاق، وهذه هي أصوله وفروعه بيننا، وليس فيها ما يمكن أن يستند عليه في تلك العادة الآثمة؛ ومما يؤيد رأينا في ذلك ما نسوقه من هذه الرواية
روى المسعودي أنه كان بالمدينة فتى من بني أمية من ولد عثمان وكان طريفاً يختلف إلى قينةٍ لبعض قريش، وكانت الجارية تحبه ولا يعلم، ويحبها ولا تعلم، ولم تكن محبة القوم إذ ذاك لريبة ولا فاحشة، فأراد يوماً أن يبلو ذلك، فقال لبعض من عنده: امض بنا إليها، فانطلقا، ووافاهما وجوه أهل المدينة من قريش والأنصار وغيرهما، وما كان فيهم فتى يجدُ بها وجدهُ، ولا تجد بواحد منهم وجدها بالأموي، فلما أخذ الناس مواضعهم قال لها الفتى، أتحسنين أن تقولي:
أُحُّبكم حُبّاً بكل جوارحي ... فهل عندكم علم بما لكم عندي
أتجزون بالودِّ المضاعَفِ مثله ... فإن كريماً من جزى الودَّ بالودِّ