والمطبعة التي كشفت الستر عن مآسي الحرب وما بعثها من جنون العقل، وما ألهبها من هوس العلم، وما غذائها من اختبال الحضارة وجشع المادة. كانت هذه القصة كما كانت غيرها من القصص الداعية إلى الروح والسلام فناً، وكانت حية، وكانت حارة. وقد خلقتها جميعاً في نفس منشئها عاطفة واحدة هي الاشمئزاز من العقل والعلم والحضارة الحديثة، لأن الفنان الحق لا يملك أن يقف من العقل والعلم والحضارة الحديثة إلا موقف المشمئز الكاره لا موقف المحب التابع، أو العبد الخاضع، ما دام يرى هذا اللون الأحمر الذي تصطبغ به الحضارة القائمة على أساسين من العقل والعلم والخالية من الحس والروح
أما القول بأن علم النفس لا يدعو إلى الحرب فلا تصح كراهيته، وإنه من الجائز للفنان أن يتبع وأن يجني الحق من فضله فهو قول يلجأ إليه المكتوف المعصوب العينين، ولا يقبل أن يقول به فنان منطلق لا يشعر بحاجته إلى العلم كي يرى ويسمع لأنه بعينيه يرى وبأذنه يسمع. . . وإلا فعليه أن يطمس عينيه، وأن يسد أذنيه وأن يقنع بقراءة الكتب التي تؤله الغريزة الجنسية، وأن يجرى وراءها.
سيقولون إن أسمى الفنانين هو الذي ينتج فناً إنسانياً عاماً تتذوقه النفوس جميعاً. وسيقولون إن القواعد التي يقررها علم النفس قواعد عامة تنطبق على النفوس جميعاً انطباقاً تاماً سليماً، وهذا وحده يكفي - عندهم - أن يغري الفنانين بالإقبال عليها والتعلق بها. وردنا على هذا أن هذه الطريقة التي يصطنعونها طريقة عقلية تجارية ليس فيها من خير إلا أنها مريحة جداً للفنان الذي يسلكها إذ يستغني فيها بكتاب يشتريه بدراهم معدودة فيقرأه فيتخذ منه مادة الفن. . . عن سنوات أو أشهر أو أيام ينفقها من عمره في هذه الحياة تأكل من أعصابه وتشرب من دمه لتجود عليه بعد ذلك بمثل ما جادت به على من أخرجوا البؤساء، وآلام فرتر، ومتروبوليس، وفاوست، وسائر هذه الجمرات الخالدة التي التهبت جهنمات في نفوس أصحابها لا كتلاً من الثلج المصنوع من الماء والأحماض والأملاح لم يكن العلم يوماً من الأيام هادياً للفن، وإنما استطاع في كثير من الأحوال أن يهدي الصناعة والتجارة
فإذا كان أتباع العلم هؤلاء فنانين حقاً فلماذا لا ينشرون إحساسهم على العالم فيحيطون به ثم يطالعوننا بما ينطبع في حسهم وهم يرون العالم على ما هو عليه، وهم يعرفون ما هو عليه؟