فطرب الرشيد طرباً شديداً واستعاده مرات! ثم قال له: تمنّ عليَّ. فقال: الهنيء والمريء، وهما ضيعتان تُغِلان أربعين ألف دينار في السنة. ولم تكن للرشيد شراسة الهادي وشكاسة خلقه وضيق صدره، فأمر له بهما على كره منه!
فقيل له: يا أمير المؤمنين، إن هاتين الضيعتين من جلالهما ما يجب ألا يُسمح بمثلهما! فقال: لا سبيل إلى استرداد ما أعطيت. فاحتالوا في شرائهما منه بمائة ألف دينار! فأمر الرشيد له بها. فقالوا: يا أمير المؤمنين، إخراج مائة ألف دينار من بيت المال طعن. فدفعوها له منجمة خمسة آلاف وثلاثة آلاف حتى استوفاها
ونعود إلى حماد فنقول: لقد فتح له هشام باب التمني على مصراعيه فهل يقع في السفه والجهل؟
لقد كان الرجل زنديقاً، والزنادقة في هذا العصر كانوا مضرب المثل في الظرف حتى كان الرجل يتعمّل الزندقة ليوسم بهذه السمة المستملحة!
ثم هو بعد ذلك يعرف جيداً أنه لم يأت خليفة مثل هشام الأموي والمنصور العباسي في ضبط المال وحسن القيام عليه والضن به إلا في حقه. بل لعله لا يجهل أن هشاماً رمى بالبخل الشديد إن صدقاً وإن كذباً، وأنه كان أبغض الأشياء إلى نفسه أن يبتدئه إنسان بمسألة، فمن فعل ذلك فأدنى جزائه الحرمان!
أترى أيستطيع الظرف أن يعصم حماداً من الانزلاق إلى الطماعية المردية؟
لم تخُنَّا فراستنا في الرجل! فالحق أنه كان مهذباً وكان قنوعاً
لقد رفع رأسه إلى الخليفة وعلى فمه ابتسامة حيية حائرة فقال: إحدى الجاريتين يا أمير المؤمنين
وكأنّ هشاماً أُعجب بهذه القناعة التي لا تنتظر في مثل هذه المواقف! ولعله أعجب أكثر بهذا الذوق الرقيق الذي شاء أن يمنحه نصيباً من هذا الجمال الفريد!
فضحك وقال: هما جميعاً لك يا حماد بما لهما وما عليهما!
وأراد أن يتوِّج ذلك بعطفه عليه ورضائه عنه! فهتف بالجارية الأولى: أن اسقيه! فمشت إليه الجارية بكأس دهاق، وعيناها الساجيتان تفعل بنفسه ما لا تفعل الخمر والسحر! فطار ما كان باقياً من عقله، وخر لليدين وللفم صريع الكأس والأعين النُّحل