ولكن مهما يكن من أمر فهاهي ذي الفلسفة - أي العقل - قد ألقت سلاحها معترفة بقصورها وعجزه عن إدراك تلك الحقيقة الكامنة وراء ظواهر الأشياء وبادرت فألقت بهذا العبء الذي اثقل كاهلها طوال العصور إلى الدين نبحثها ما شاءت له طرائقه، ولتقنع الفلسفة بالبحث فيما تستطيع له فهما وإدراكا، ولتكن مهمتها منذ اليوم تلخيص النتائج العلمية وجمعها في وحدة شاملة. فقد بدأت المعرفة بأشتات متناثرة من المعلومات، ثم امتدت إليها يد العلم بشيء من الربط حتى تركزت في طائفة من العلوم. أفلا يجدر بالفلسفة أن تؤاخي بين أفراد هذه الجماعة من العلوم المختلفة. فتسكب المعارف الإنسانية جميعا في وحدة متماسكة؟ حقيق بها إلا تدع سبيلا للبحث حتى تهتدي إلى قانون عام ينتظم التجارب الإنسانية جميعاً، كائناً ما كان لونها. . . ترى هل توفق إلى الهداية في هذه الطريق الملتوية الوعرة، فتنتهي إلى قانون واحد يفسر هذا الشتيت المتضارب مما يقع تحت حسنا؟ ويضم تحت لوائه المفرد كل هذه البنود المتباينة مما تضم صدورنا من تجربة وعلم؟
يجيب سبنسر أن نعم، إلا يتلخص تاريخ الكائنات جميعا في ظهورها من بدء مجهول ثم اختفائها في نهاية مجهولة؟ إذن فلا بد ان يكون ذلك القانون المنشود شاملا للتكوين والانحلال. . . إلا وهو التطور. وهنا يضع سبنسر قانونا للتطور شرحه في مجلدات عشرة واستغرق من زمنه عشرين سنة كاملة، هاك نصه:(التطور هو تجمع لأجزاء المادة، يلازمه تشتيت للقوة والحركة، وفي خلال ذلك تنقل المادة ن حالة التجانس المطلق إلى حالة التباين المحدود) ولشرح هذه العبارة نقول:
لقد تكونت الجبال الشامخة من ذرات الحصى، وامتلأت المحيطات الفسيحة بقطرات ضئيلة من الماء، واجتمعت عناصر دقيقة من الأرض فكونت الأدواح العالية، ووجبات متعاقبة من الطعام تشيد أجسام الرجال، وتآلفت طائفة من المشاعر والذكر فألفت فكرا ومعرفة، ثم تآخت جزئيات المعرفة فأنتجت علماً وفلسفةً، لقد تطورت الأسرة إلى القبيلة، ثم إلى المدينة والجنس، ثم إلى الدولة، ثم إلى تحالف بين دول الأرض قاطبة. . . كل هذه أمثلة لأجزاء المادة المتناثرة كيف تأتلف ويجتمع بعضها إلى بعض. ومن جهة أخرى يسبب هذا التالف حدا من حركة الأجزاء وشلا لقوتها، فقوة الدولة مثلا تحد من حرية الافراد، والحبة من الهباء حرة الحركة وهي منفصلة، مشلولة مقيدة إذا ما اجتمعت مع