العراق في ذلك العصر عرف لونين من الحياة: حياة السر وحياة العلانية. وتيقنت أن الشريف ضاع من حياته الشعرية نحو عشرين سنة بسبب التخوف من عواقب الجهر بكلمة الحق.
وقد صح عندي أن الشريف الرضي هو شاعر الثورة على الاستبداد
ولكن شواهد هذا الجانب من حياته الشعرية قد ضاعت
وهل بقيت أشعار بشار في الثورة على رجال السياسة وأقطاب المجتمع؟
هل بقيت أشعار ابن الرومي في الحقد على معاصريه من الحكام والوزراء؟
لقد بقي منها ما جازت روايته، وذهب شعره اللاذع إلى غير معاد؟
وكيف غاب عن أحمد أمين أن فقهاء العراق أنفسهم قد اشتهروا في آرائهم بإيثار الرموز والكنايات؟
إن كان أحمد أمين ينكر أن شعراء العراق وصفوا الأحداث الاجتماعية فليشرح لنا كيف اتفق أن يموت كثير من شعراء العراق بالقتل والاغتيال
وهل يقتل الشاعر أو يغتال إلا بسبب الحرص على الجهر بكلمة الحق؟
وهل في آداب الأمم كلها أبرع سخرية من الشاعر الذي قال:
أنفوا المؤذن من دياركم ... إن كان ينفي كل من صدقا
وهو شاعر قد تأدب بأدب أهل العراق.
إن ديوان الشريف يصور أكثر ما وقع في العراق من الأحداث السياسية والاجتماعية في الشطر الأخير من القرن الرابع، ففيه نرى ما وقع لأقطاب الكتاب من الكوارث والخطوب، وفيه نرى كيف انتهت حياة الخليفة الطائع، وفيه نرى أخبار القتال الذي دار بين السنة والشيعة، وفيه نرى عدوان بني تميم على بعض أصدقاء الشاعر من الزعماء.
وما يقال عن ديوان الشريف الرضي يقال عن ديوان المتنبي فهو سجل لأكثر الحوادث التي وقعت في الشطر الأول من القرن الرابع. وهو تصوير لأكثر ما عرف من الأقطار العربية والإسلامية. وهو تاريخ لأكثر من اتصل بهم من الوزراء والرؤساء والملوك.
وهل يمكن أن يقال إن أشعار المتنبي وهو في حلب تشابه أشعاره وهو في مصر؟
إن القول بذلك لا يقع إلا من رجل مثل أحمد أمين يستدل بوحدة القوافي والأوزان على