أما في قصته (رمل ودم) فهو المتهكم اللاذع، صاحب الأسلوب المتدفق الفياض، يرسم لنا في لياقة وسحر، حياة مصارعي الثيران فلم يحاول أن يقلل من خطر هذه المصارعة الوحشية، ولكنه هاجم الأرستقراطية التي تبني مجدها وتسليتها على شقاء هؤلاء المصارعين الذين يطلقون عليهم اسم (التربادور). فبطل هذه القصة (جوان جالا رادو)، فتى يخرج من صفوف الشعب ليشق طريقه إلى المجد بقوة ساعديه فيتمرن على مصارعة الثيران ولا يلبث أن يبذ أقرانه ويتألق هجمه، وتمكنه شهرته وحياته الجديدة من ان يستمتع بكل ما كان يصبو إليه في صغره، يحارب الفقر والجوع وينعم بالزواج ووفرة المال، ولكن القوة والشهرة لا تدومان، فهو يخشى ان يفقدهما عندما يقف في ساحة المصارعة حاملا حياته بين ذراعيه، ويرسم ايبانيز إلى جانبه صورة أخرى يحملنا على التهكم والازدراء بها: صورة (كورنتيس) وجدانية الحس متقلبة الأهواء تدعى (دوناسول)، بعد أن تنتزع (جالارادوا) من أحضان زوجته، تحبه، وتعبده كبطل وتحاول أن تقرن نجمها بمجده وشهرته، ولكن عندما تحس بالفارق بينهما كامرأة أرستقراطية تنحدر أصلاب الأشراف، وبينه كرجل من عامة الشعب. تحتقره وتتخلى عنه، فيهوى نجمه ويفقد توازنه وهو في ساحة المصارعة فينشب الثور قرنيه في صدره ولا يلبث أن يقع مضرجا على الأرض حيث تسيل دماؤه وتمتزج بالرمال، يحملونه إلى الخارج جثة هامدة ولكن الجمهور لا يلبث بعد قليل أن يصفق ويصيح طالبا مشهدا جديدا ليشبع نهمته ويرضى غريزته التي طبعت على ذلك، منذ أن شهدت الدماء الأولى وهي تجري على الأرض: دماء هابيل.
وايبانيز قوي الإيمان بروح الحضارة العربية التي سادت إسبانيا وظلت ترفرف فوق ربوعها زهاء ثمانية قرون؛ تلك الروح المتوقدة التي نفذت إلى الغرب فعلمته كيف يخلق من الحب أدبا عاليا ومن المرأة صنما معبودا، ما برحت تمد المعجم الإسباني بربع مفرداته وان تشع أنوار خيالها فتلهب قرائح كتابها وتسعر بحرارتها دماءهم فتدفعهم إلى كتابة، دون كيشوت، وكونده لوكانور، وغيرهما مما نرى آثار الفروسية العربية كامنة بين سطورها، بل أن أثر هذه الروح ليبدو واضحا تماما في مؤلفات وأشعار سلفادور، رويدا، والفريدو بلانكو، وبيرس فالنتي وغيرهم ممن نراهم متأثرين بالخيال العربي الباهر.
لقد صهر بلاسكو ايبانيز بنار عاطفته المشبوبة تخيلاته عن حضارة أجداده العرب،