تعرفه بعقلك , قد أطعتك وضحيت بإيماني وغدوت كالظافر اليائس الذي أحرق كل سفنه وقطن في الجزيرة الجديدة قاتلاً منه كل جاء بالرجوع. فعقلي هو الآن كل شيء وهو وحده يحملني إلى الله ويفتح لي أبواب الحقيقة والأبدية! ولكن تعساً لي إذا ضل دليلي الطريق فالعادة لا بد أن تغادرني. وويل لي إذا شاء القدر أن تتقطع أوتار هذه القيثارة، فتضطرب ألحانها، وتكثر أشجاني وأشجانها.)
وفي فترة ثانية يكتب جول هذه الرسالة لروفائيل:
(إن مذهبك قد خدع كبريائي، كنت سجينا وأنت جذبتني من عجلتي لتقودني إلى ضوء النهار. فالنور الذهبي والفضاء الفسيح قد لامسا جفوني. بالأمس كان يرضيني من المجد الوضيع ان أكون ابنا صالحاً وصديقا فاضلا ورجلا نافعاً لبلده، أما أنت فقد صيرتني رجلاً إنسانيا.)
قال لي روفائيل: المملكة الوحيدة في العالم الروحاني هي مملكة العقل
وفجأة ترى الشاعر يحس حقارة الإنسان إزاء عظمة الوجود فيجعله إحساسه هذا في شك من نفسه فيقول:
في أي مكان حيثما حولت أنظاري يا روفائيل يبدو لي الإنسان محدود العقل، وان هوة عظيمة تفصل بين تأملاته وبين الحقيقة لا تغبطه على النوم الذي يستريح فيه ولا توقظه! فالعقل هو مشعل في عجلة ينير لحظة فوق رأس السجين ثم يتركه في ليل أكثر حلوكة. إن فلسفتنا هي رغبة (أوديب) في المعرفة رغبة يحوطها الألم. ولا تنتهي من الإلحاح والسؤال حتى يجيبها مجيب (هل تستطيع أن تعلمني من أنت؟) ولكن الشك أخذ يحز في قلب جول وجول يصيح ويتألم فتخمد جذوته المشتعلة، فيقول مؤنبا (روفائيل) بلهجة النادم:
(هل تعيد إلى حكمتك ما سلبته مني؟ وإذا لم يكن - لديك - مفتاح تفتح لي به السماء فلماذا طردتني من الأرض؟ وإذا كنت تعلم أن سبل الحقيقة وراء حفائر الشك المخيفة فلماذا ألقيت صاحبك في هذه الشعب الملتوية؟
أنت هدمت كوخا حقيرا لتشيد على بقاياه قصرا منيعا ولكنه قصر فارغ ويا للأسف!
روفائيل!! أطلب منك نفسي، فأنا لست بسعيد.
قد فقدت شجاعتي، ويئست من قوتي. ويدك وحدها تستطيع أن تشفي جراحي.)