ونحن إذا حاولنا أن نجد شيئاً ظاهراً يميز الإنسان مما عداه من المخلوقات في هذه الظاهرة لم نجد شيئاً. ذلك أنه إذا حسبنا النطق يميز الإنسان فالببغاء ناطقة، وإذا حسبنا الحياة الاجتماعية تميز الإنسان فالذئب والقرد والوعل حيوانات اجتماعية، وإذا حسبنا الإحساس يميز الإنسان فقد رأينا الحيوان بل والنبات يحسان، وإذا حسبنا العقل فالحيوان يعقل وإن أنكر العلماء، وهكذا فإننا نعجز في التفريق بين الحيوان والإنسان إلا باثنتين! هذه الظاهرة التي سجلناها، وظاهرة أخرى هي الدين. . . على انه يمكن بسهولة تامة أن نتصور النبات والحيوان والجماد معهما متدينين جميعاً إذا اعتبرنا أن الدين هو الإسلام وهو نهج النظم الطبيعية التي تؤدي إلى السلامة، وإذا لحظنا أن الأديان لم تلزم الإنسان إلا بعد أن انحرف عن نهج النظم الطبيعية التي كان يجب عليه أن ينهجها لتسلم حياته من الأضرار وأمراض البدن والروح، لم يبق أمامنا من شيء يميز الإنسان على سائر الكائنات غير هذه الظاهرة التي ذكرناها
فما هي هذه الظاهرة؟
إنها الفن!
وهذه الظاهرة تسلك حين تسري في الإنسانية مسلك كل ظاهرة من ظواهر التطور والارتقاء. وقد رأينا ظواهر التطور والارتقاء تبدأ في الدنيء من الخلائق على صورة يسيرة غامضة، ثم تزدهر وتتضح وتتضح حتى تتميز تميزاً تاماً واضحاً ملموساً فيكون هذا التميز طابعاً لهذا الفريق من الخلائق ويكون هذا الفريق أنضجها وأرقاها في هذه الناحية
وكذلك الفن. نواته موجودة في البشر جميعاً لأنهم الحلقة الحيوية التي اختصتها الطبيعة به وهيأتها له. والدليل على ذلك أن الناس جميعاً يستجيبون للفن أو هم على الأقل يطربون للموسيقى. وما كانوا يملكون إلا هذا ما دام في الحيوان ما يغني كالكروان والبلبل، وما دام فيه ما يستجيب للصفير (وهو ضرب من الموسيقى) كالثعبان. وليس غناء الكروان والبلبل واستجابة الثعبان وطربه للصفير إلا بشيراً بالفن أو بأنغامه على الأقل بشرت به الحياة الخلائق في الحيوان، وحققته تحقيقاً تاماً في الإنسان؛ غير أن الناس ليسوا سواء في تكوينهم الفني، وليس في هذا عجب لأن الناس ليسوا سواء في شيء من الأشياء، ولأن