ألم تسمعوا أن بغداد نقلت شعر ابن الجهم من حال إلى أحوال؟
ألم تسمعوا أن أشعار المتنبي في مصر لها ألوان تخالف ألوان شعره في الشام والعراق؟
إن صديقنا أحمد أمين يتوهم أن وحدة القوافي والأوزان توجب وحدة المعاني والأغراض، فهو لذلك يعتقد أن ديوان ابن خفاجة صورة من ديوان ابن زيدون، ويؤمن بأن شعراء مصر لم يكونوا إلا صورة من شعراء العراق.
ومثله في ذلك مثل من يظن أن الناس خلقوا جميعاً على طراز واحد لأنهم جميعاً لهم وجوه فيها أنوف وجباه وأفواه وعيون، وآذان. وهذا والله حق: فكل إنسان له عينان وشفتان وأذنان، وهو يمشي على اثنتين لا على أربع، ولكن هل يمكن القول بأن بنى آدم مع هذا التشابه خلقوا على طراز واحد؟
كيف يجوز هذا القول والتوأمان قد يختلفان اختلافاً بيناً في معارف الوجوه وفي خصائص الذاتية وفي فهم الأشياء؟
ما كنت أظن أني سأجتاح إلى توضيح الواضحات في الرد على الأستاذ أحمد أمين، ولكنه قهرني على سلوك هذا المسلك الشائك لأدفع أوهامه عن أذهان القراء وفيهم من يظن أنه أبعد نظراً من حزام حين يقول في أدب المعدة وأدب الروح ما يقول.
المهم أن يعرف القراء أننا لا نتجنى على الأستاذ أحمد أمين، وإنما نريد أن يفهموا أن للحقائق الأدبية وجوهاً مختلفة يدركها حق الإدراك من ينظر إليها نظر الفهم والاستقراء. أما الذين يواجهون الأدب بلا تأمل ولا تثبت فقد يخفى عليهم الدقائق الفنية ولا يظهر لأعينهم غير ما يحبون أن يدنوه من الهنوات ليقال إنهم مصلحون لا يهمهم غير التنبيه على العيوب.
وما نقول بأن الأدب العربي كان في جميع أطواره منزها عن الضعف، وإنما ننكر أن ينظر الرجل إلى الأدب العربي نظرة الاستخفاف ليهون من شأنه بلا بينة ولا برهان.
وفي أي عصر يستبيح بعض الناس هذه الألاعيب؟
في العصر الذي يريد فيه العرب أن يستوثقوا من أن لهم ذاتية أدبية ليقاوموا طغيان الآداب الأجنبية، وليقيموا مجدهم الأدبي على أصول ثوابت من عظمة أسلافهم في التاريخ.