للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

القياس في الحكم. وذلك أمر لم يقره أهل السنة وكان سبب خلاف كبير. وقد تمكنوا أن يسيطروا على الواقع السياسي مدة من العصر الأموي الأخير؛ فقد اعتنق مبادئهم يزيد الناقص ومروان بن محمد وأخوه إبراهيم.

والمهم أنه ما كاد يأتي القرن الثالث والرابع، حتى كان علم الكلام قد نضج نضجا، وحتى ترجم إلى العربية فلسفات كثيرة، وحتى اختلط ذلك كله بالدين والعقائد. وقد عملت أحداث السياسة وفتن الرأي على إضعاف الدولة واضمحلال الملك. وكان الشام هو مرجل فتن الرأي والدين والفلسفة والسياسة جميعا. كان هو والعراق فقط، أما ما عدا ذلك من أنحاء الدولة الإسلامية فقد كان مستقرا نوع استقرار.

في هذا الوسط المضطرب المحتدم نشأ أبو العلاء، وتنقل بين أرجائه ما بين المعرة وحلب وبغداد، فشارف ما كان بعصره من الفلسفات اليونانية والإسلامية والمسيحية واليهودية والمجوسية وكانت من عناصر ثقافته، هذا إلى نظراته الخاصة ولمحاته الشعرية العديدة.

ولم يحاول أبو العلاء في (الفصول والغايات) أن يسلك هذا المسلك الذي نراه من تقيد فني باللفظ ولزوم ما لا يلزم ونظام الفصول والغايات والنغم والموسيقى، إلى غير ذلك من الفنون النثرية ليدل على مقدرته الفنية، أو يبرهن على سعة اطلاعه ومعرفته بأخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم، وذكاء فؤاده اللماح، بل أنا أوشك أن أقول بأنه قد سلك ذلك حتى يصرف الناس إلى ظواهر الأشياء، حتى لا يصيبه أذى من السفهاء، وحتى يأخذ كل من معانيه ما يلائمه وما يستطيعه عقله ويقبله ذهنه. فهذا أمر يوجب الجذر حين نتلقى عن المعري آراءه. وأمر ثان هو أن المعري كان منعزلاً لا هم له إلا تقرّي نفسه وملاحظتها ملاحظة دقيقة. وقد يحتاج أحيانا إلى الترويح والتسلية، وكان يعمد إلى هذا النوع من اللهو بالمعاني والألفاظ، وذلك واضح جدا في فنه اللفظي على الأقل. فعندما نسمع قول المعري يجب أن نحتاط قليلا، فربما حمله العبث باللفظ على شئ من الاعتساف في المعنى، أو اندفع إلى معنى غريب غير مقصود في سبيل أن يستقيم له فنه اللفظي الذي أخذ نفسه به أخذا عنيفا، وكثيرا ما شط به المعنى عن اللفظ. يجب أن نحتاط إذن حينما نسجل على المعري آراءه، فنحن لا نعرف متى كان المعري هازلا، ومتى كان جادا في عبثه بالألفاظ والمعاني. وأمر ثالث يجب أن نلتفت إليه: فهو قد يرى آراء يحرص عليها فيدونها على

<<  <  ج:
ص:  >  >>