للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أنها من فلسفته، ويمكن أن تكون آراء لغيره دونها للتصوير والافتنان، ويمكن أن تكون بين بين: أعني أنها خواطر عرضت له كما تخطر الخواطر لأي شاعر سواء تعارضت مع مبادئه العامة أو اتفقت. فلا عجب إذا رأيته يحدثك بان الإنسان مجبور في كل أعماله وتصرفاته، ثم يأتي فيذكر لك أن للمخلوق في الأقدار تصريفا! فهذا لا مرد له إلا ما قلت من أمر عبثه بتلك الخواطر السوانح له في خلوته، وحرصه على تدوينها متفننا مبتدعا مستعينا على ذلك بما علم من شعر الأقدمين وأخبارهم وعلومهم.

وأبو العلاء يقول بالجبر المطلق في أفعال الإنسان وأعماله، ويرتب على ذلك نتائج اجتماعية خطيرة، وآراء فلسفية خطيرة كذلك.

ونحن إذا أردنا أن نلتمس نظرية الجبر عنده فلن نجدها مجموعة في مكان وأحد، ولا هو يعالجها بأسلوب وأحد، وإنما أنت تقرا الكتاب جميعا فتجده ينطق جبرية، إذ لا يكاد فصل من الفصول يخلو من الجبر تلميحا أو تصريحا أو رمزاً. فهو ساخر مرة، ثائر أخرى، هادئ أحيانا، ممجد قنوع في اكثر الكتاب. على أن تقريره الجبر المطلق أوقعه في حيره وارتياب كبيرين، فمن الناحية الدينية لا تستطيع أن تستبين رأيه في التكليف ولا في البعث فهو مضطرب فيهما أشد اضطراب، ذلك لان الجبرية إما أن الله يقدر عليك العمل ويقدر عليك الجزاء كما تقول الجهمية، وهو عبث يأباه المعري على الله؛ وإما أن تقدر عليك العمل ولا جزاء، وهو ما يلائم المعقول حالة تقدير العمل، ولكنه يخالف الدين صراحة. والمعري في كل أحواله آخذ بما يرى العقل. والعقل هو الذي هداه إلى أن الجبر مسلم به، لأن كل شئ في هذه الحياة إنما هو نتيجة لشيء كان قبله ومقدمة لما يأتي بعده، وإلا إذا كان الأمر اختيارا فإما أن يكون متصلا بما قبله وما بعده، اتصال العلة بمعلولها فيكون الجبر بعينه، أو أن يكون الأمر فوضى واضطرابا وهو ما لا يثبته الواقع الخارجي.

ولست بسبيل أن أدافع عن نظرية الجبر، أو أتكلم عنها مطلقة، ولكني أثبت صفات الفلسفة العلائية صحت أو لم تصح. وأقرر أنه اعتمد على العقل في كل أحواله، وعلى العقل فقط؛ فما قام عليه دليل العقل احترامه واعتنقه، وما لم يقم عليه دليل أو خرج عن حيز العقل وقف منه المعري موقفا يختلف رفضا وشكا، لا يصلان إلى درجة الإنكار المحض، ولا الإيمان المسلّم، وخاصة إذا كان الأمر يمس الدين والقدرة الإلهية من قريب أو بعيد.

<<  <  ج:
ص:  >  >>