للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ولكن ذلك قد يدفع المرء إلى أن يتساءل هل أخذ أبو العلاء بهذا الأصل في كل فلسفته؟ قد يكون أخذ به في اللزوميات من بعد، ولكنه في (الفصول والغايات) يصرح بأنه (يدرك العلم بثلاثة أشياء: بالقياس الثابت، والعيان المدرك، والخبر المتواتر. فأما الحس فزجر طير هي خليقة بالكذب، وإن صدقت فباتفاق؛ والعلم لله كملا) وقد توفر للمعري اثنان من مدركات العلم، ولكنه أهمل المتواتر حرصا منه على الحقيقة، واحترازا مما قد يكون أصابها من خطا أو تحريف. فإذا خُبِّر خبر الجرادتين اللتين غنتا لوفد عاد تساءل: (ما قالت الجرادتان لوفد عاد؟ قالتا ما الله به عليم، طال الزمن فلم يعلم القيل. . .) فعلمها عند الله وحده؛ وسواء سلم بصحة الحادث، ورفض المروى، أو رفض الخبر أصلا فهو لا يعتمده في شئ مصدرا من مصادر العلم أو اكتسابه، فلم يبق له إلا القياس الثابت: حكم العقل، فهو يهتدي به ويتخذه نبراسه في كل أموره وشؤون فكره، وهو مع ذلك كثير الشك كثير التساؤل كثير الحيرة، يحس ذلك من نفسه فيعترف به اعترافا صريحا إذ يقول (أدلج وأدلج، وإذا سئلت فأنا ملجلج، والله للمنصف ظهير). . لا يجزم بشيء ولكنه مؤدب اشد الأدب، يتساءل في عجب بدل أن يعترض أو يثور. وهو منطقي النهج في التفكير يقدم المقدمات، ويستنتج النتائج ويقيس عليها قياسا منضبطا. فانظر إلى هذا القياس المنطقي الدقيق (المدمن على اللهو، خدن الغفلة والسهو، المنتقل من بهو إلى بهو، ملئ من الكبر والزهو، يسبح في عيش رهو، يسأل عن الطعام والطهو، أخسر صفقه من شيخ مهو) هذا قياس منطقي سليم؛ فهو يؤكد أن الشاب المرح خاسر، وهو لا يعفي الشيخ من الخسر كذلك، ولكنه لا يدري أتؤيد الحقيقة هذا القياس فيقول (فدلني ربي على الرباح).

وحين تتعارض وسيلته هذه مع الحقيقة أو الواقع يتحير فيقول: (هكذا يقول المعقول ولله نظر في العالم دقيق). وهو يوصيك بأنك (إن سمعت أن الرقيع أمطر جندلاً، وأنبتت البقيع حنظلا. فقل: أما في المعقول فلا، وأما في القدرة فبلى) فهو هنا يثبت بان الله حكمة وقدرة أعظم من أن يتصورها العقل أو يدركها، ويسجل أن الله قدير لا تتقيد قدرته بمعقول أو غير معقول، ولكن ذلك لم يمنعه أن يعمل عقله فينتهي به هذا إلى استحالة ذهنية، فهو يقر بهذا العجز المطلق عن إدراك أغراض القوة الخفية؛ وهو إذا ما فكر وأطال التفكير في الجبر والاختيار والثواب والعقاب فدان بالجبر وأنكر الثواب والعقاب كما يرشده إلى ذلك

<<  <  ج:
ص:  >  >>