ولو كان احمد زكي باشا حياً ورأى هذا العبث في السخرية من أهل الأندلس لقدم أحمد أمين إلى مهاوي سقر (وأحمد زكي باشا أول من أذاع محاسن الأندلس في العصر الحديث، قبل الشيخ محمد المهدي والأمير شكيب أرسلان).
ومن يدري، فلعل أحمد أمين يلقى من الجزاء ما هو له أهل يوم يتنبه أساتذة الأدب إلى واجبهم في رد عادية العادين على ماضي اللغة العربية!
من يدري، فقد يقوم أحد المستشرقين بالانتصاف للتراث الذي غفل عن قيمته الشرقيون!
من يدري، فقد تستيقظ كلية الآداب فتنشئ كرسياً للأدب الأندلسي يرف شبان العصر الحاضر أن أسلافهم استطاعوا أن يروعوا الأدب اللاتيني في حصنه الأمين!
إن الشواهد التي سلفت قد انتزع أكثرها من الشعر، فكيف كان النثر عند أهل الأندلس وكيف دل على تذوق أصحابه؟
لا أريد أن أعيد ما قلت في كتاب النثر الفني حين تحدثت عن كتاب الأندلس، لأني أبغض الحديث المعاد، وإنما أنبه القراء إلى خصيصة ظاهرة من خصائص النثر الأندلسي: هي الهيام بالتشبيهات رغبة منهم في تجسيم المعاني، والتشبيهات تنتزع في الأغلب من صور الطبيعة والوجود، فهي من الشواهد على إحساس الكاتب بالطبيعة والوجود
ولم تقف هذه الخصيصة عند الرسائل القصيرة أو كتب العهود، وإنما شملت كتب التراجم وكتب التاريخ، وغلبت على الأبحاث الصوفية.
ومعاذ الأدب أن نفهم الطبيعة كما يفهمها أحمد أمين فنظنها مقصورة على الشجرة والزهرة، هيهات، إنما الطبيعة كتاب الوجود بما فيه من حجر ومدر، وشجر ونبات، وماء وجماد.
والطبيعة الشاملة تظهر بعظموتها وجبروتها ممثلة ناطقة في اكثر ما كتب الأندلسيون، ولو شئت لقلت إنهم بالغوا في ذلك حتى قاربوا الإسفاف، فهل كانوا يعلمون من وراء الغيب أن سيجيء في آخر الزمان من يتهمهم بالغفلة عن تذوق الطبيعة والوجود؟
أمن أجل تلك التهمة المحجوبة في ضمير الغيب كان الفتح بن خاقان يفتعل ويعتسف في الأوصاف والتشبيهات ليقيم الدليل على أن الطبيعة كانت تطالع الأندلسيين من كل جانب؟
أكان ابن زيدون وابن برد وابن شهيد وابن حزم يتوقعون أن سيتجنى عليهم ناس فيتهمونهم بالتبلد وضعف الإحساس فكان من احتفالهم بوصف الطبيعة ما كان؟