ومسلم فذكر (أن أبا نواس أشعر لتصرفه في أشياء من وجوه الشعر وكثرة مذاهبه فيه، ومسلم جار على وتيرة واحدة لا يتغير عنها) وأبلغ من هذه المنزلة أن يكون في قوة صائغ الكلام أن يأتي مرة بالجزل، وأخرى بالسهل، فيلين إذا شاء، ويشتد إذا أراد. ومن هذا الوجه فضلوا جريرا على الفرزدق، قال جرير:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارجعي بسلام
تجري السواك على أغر كأنه ... بَرَد تجدر من متون غمام
فانظر إلى رقة هذا الكلام، وقال أيضاً:
وأبن اللبون إذا ما لُزَّ في قرَن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس
فانظر إلى صلابة هذا الكلام!
وفحوى هذا الكلام أن ليس للتصرف في القول والتفنن فيه والإبداع قدر، وأن الشان كله في أن يلين القائل ويشتد أي أن ينسلخ العبقري من طبيعته التي فطره الله عليها ويتكلف الشدة أو اللين.
وقد روي ابن رشيق في (العمدة) قول البحتري الذي تهاون العسكري بجلالة خطره ثم قال: (فإذا كان هذا فقد حكم له (أي للفرزدق) بالتصرف، وبهذا أقول أنا وإياه اعتقد فيهما (أي في الفرزدق وجرير) وإذا لم يكن شعر الشاعر نمطاً واحداً لم يمله السامع.
وقول أبي هلال في لين القائل واشتداده أو في تليين الكلام وتصليبه ذكرنا بخطب في كتاب لا اسميه الآن كان صائغها يكد روحه وهو يصوغ كداً، ويزفر زفيراً، ويزحر زحير المرأة عند الولادة، ويدور ويجول ويقوم ويقعد. . . لكي تحاكي تلك الخطب المصوغة أقاويل الأولين السابقين فتجوز نسبتها إلى من عزبت إليه، وهيهات هيهات أن تجوز؛ إن تكلفها، إن تعملها، إن تصلبها، إن زخرفتها، إن فقدان الطبيعة فيها - فان كل ذلك ليصيح: قد صاغها صواغ. . .
هجا الفرزدق:
أني كذاك إذا هجوت قبيلة ... جدَّعتهم بعوارم الأمثال
وكنت إذا عاديت قوماً حملتهم ... على الجمر حتى يحسم الداء حاسمه
(والفرزدق في هجائه واسع الفطن فسيح المدى كثير الفنون لا يقف عند حد في مناضلة