للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بأنه لم يتذوق الطبيعة في كل ذلك الأمد الطويل وهو يتغنى بها صباحَ مساء؟

وكيف وكان ابن خفاجة مُرهف الإحساس إلى حدّ الخيال؟

إن ابن خفاجة هو الشاعر الذي تفرّد بالحنان إلى الطبيعة في جميع المناحي الشعرية، حتى في قصائد الرثاء، فكيف يجوز القول بأنه وصف الطبيعة بلا وعي ولا إحساس؟

يضاف إلى ذلك أن ابن خفاجة عُرف بين معاصريه بالزهد في مدح الملوك والترفع عن جوائزهم السنيّة، في زمن كان فيه المديح مذهباً لا يغضّ من أقدار الشعراء، ولا يعرّضهم لسفاهة القيل والقال، فاتسع وقته لمناجاة عرائس الشعر في هدوء وصفاء

إن ابن خفاجة صاحب مذهب في الشعر العربي، ومنزلته في وصف الرياض لا تقلّ عن منزلة أبي نواس في الخمريات والشريف الرضي في الحجازيات

ومن الذي ينكر قيمة الشاعر الذي يقول:

لله نهرٌ سال في بطحاءِ ... أشهى وُروداً من لَمَى الحسناءِ

متعطفٌ مثل السوار كأنه ... والزهر يكنفه مجرُّ سماءِ

قد رقّ حتى ظُنَّ قرصاً مُفرغا ... من فضةٍ في بُرودةٍ خضراءِ

وغدتْ تحف به الغصون كأنها ... هدبٌ تحفّ بمقلةٍ زرقاءِ

ولطالما عاطيتُ فيه مدامة ... صفراَء تخضب أيديَ الندماءِ

والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لُجين الماءِ

وكيف يتهم في وصف الطبيعة من يقول:

حثَّ المدامة والنسيم عليلُ ... والظل خفَّاقُ الرواق ظليلُ

والنَّور طرفٌ قد تنبه دامعٌ ... والماء مبتسمٌ يروق صقيلُ

وتطلعتْ من برق كل غمامةٍ ... في كل أفقٍ رايةٌ ورعيلُ

حتى تهادى كل خوطة أيكةٍ ... ريّا وغصَّتْ تلعةٌ ومسيلُ

فالروض مهتز المعاطف نعمةً ... نشوان يعطفه الصبا فيميلُ

ريّان فضّضه الندى ثم انجلى ... عنه فذهّب صفيحته أصيلُ

وارتد ينظر في نقاب غمامة ... طرفٌ يمرِّضه النعاس كليلُ

ساجٍ كما يرنو إلى عوَّاده ... شاكٍ ويلتمح العزيزَ ذليلُ

<<  <  ج:
ص:  >  >>