إلى تلك الفكرة في بيان جلي يزيدها تفصيلاً حين يقول:(وليس اللسان ذنب إنما الذنب لمحرك اللسان، كفارس طعن برمح فقتل غير مستحق للقتل، فالجاني الفارس، والرمح غنى عن الاعتذار. وإذا سمعت القدم إلى قبيح فالجريمة لناقلها. مثل رجل ركب فرساً فأخاف سبيلاً فاستجوب العقوبة الرجل دون الجواد. . .
وإذا خانت اليد فالباسط لها الخب الخئون. . .) ومن هو محرك اللسان ومن مسير الفارس؟ وهل كان في إمكان محرك اللسان ألا يحركه، والفارس ألا يطعن برمحه، وناقل القدم ألا ينقلها؟ كلا، لم يكن ليستطيع، إذن فلا لوم عليه ولا تثريب. ولكن ماذا نقول وأبو العلاء يأبى أن يقول ذلك صراحة؟ فهو لا يعرض لها في بيان أكثر مما نرى. فهو حذر يود ألا يتعرض صراحة لأمر ليس على علم به. ذلك هو أمر الموت وما بعده من الحياة الآخرة. فهو يجهل أمرهما جهلاً يتمنى معه أن يعثر (بمخبر يعتام نفائس ما أقدر عليه يعلمني بعد الموت كيف أكون) وهو نفسه يصرح تصريحاً بهذا الخوف والجهل ويلوم نفسه أنه لم يتخذ الحيطة والحذر حيال هذا الأمر الغامض (وقد سئمت الحياة (وأخاف) أن أنقل فأقدم على ما حزن وساء وأنا أغفلت الحزم: ملت عن الجدد ومشيت في الخبار)
ولكن ما دام لا يأتي أفعاله مختاراً فلم البعث والحساب؟ الواجب ألا يكون بعث ولا حساب إلا إذا كان جبراً هو أيضاً وهو عبث ينزه عنه الله. على أنه يرى أموراً مادية تحول عقلاً دون حدوثه إذ يصرح أن (لو غبرْتُ ألف حقبة ما ورد على منهم كتاب ولا رسول، وعندي خبر خبرِ نيه المعقول: إن جلود القوم تمزقت، واللحوم بليت وتهالكت، وصارت الأعظم رماماً). وهو يسخر من أهل الدار الآخرة سخرية هادئة لاذعة في وقت معاً (سلم الله عليكم أهل ديار لا يشعرون بتبلج الصبح، ولا ترجل النهار، اشتاق إليكم وإلى من أشتاق؟ الأرواح متكلمة، ولا الأجساد ملتئمة، ولا المنازل برحاب) على أنه يؤمن الإيمان كله أن مصيره هو نفس هذا المصير، (أما اللحاق بالقوم فقريب ولست من لقائهم على يقين فالقلب لذلك آسف حزين، أفتراني أوجر على ذلك وأثاب؟!) فهو حزين كما ترى لأنه لا يستطيع أن يتبين حال الأموات في الدار الأخرى، ولأنه لا يستطيع أن يؤمن بلقائهم. وهو يميل إلى أنه لن يلتقي بهم لما قدم من أسباب، فإذا ما أراد بعد ذلك أن يحيي أباه حياه (تحية رجل للقياس ليس براج) وغير هذا من النصوص كثير يدل على وجهة نظره في