ضن قوم أن كمال الإنسان وغايته هما في اللذات الحسية، وأنها هي الخير المطلوب والسعادة القصوى. وظنوا أن جميع قواه الأخرى إنما ركبت فيه من أجل هذه اللذات والتوصل إليها، وأن النفس الشريفة التي سميناها ناطقة إنما وهبت له ليرتب بها الأفعال ويميزها ويوجهها نحو هذه اللذات لتكون الغاية الأخيرة هي حصولها على النهاية والغاية الجسمانية. وظنوا أيضاً أن قوى النفس الناطقة أعني الذكر، والحفظ والروية كلها تراد لتلك الغاية، قالوا وذلك أن الإنسان إذا تذكر اللذات التي حصلت له بالمطاعم والشارب والمناكح، اشتاق إليها وأحب معاودتها، فقد صارت منفعة الذكر والحفظ إنما هي اللذات وتحصيلها، ولأجل هذه الظنون التي وقعت لهم جعلوا النفس المميزة الشريفة كالعبد المهين وكالأجير المستعمل في خدمة النفس الشهوية، لتخدمها في المآكل والمشارب والمناكح وترتبها لها وتعدلها اعدالاً كاملاً موافقاً. وهذا هو رأي الجمهور من العامة الرعاع وجهال الناس السقاط. والى هذه الخيرات التي جعلوها غايتهم، تشوقوا عند ذكر الجنة والقرب من بارئهم عز وجل وهي التي يسألونها ربهم تبارك وتعالى في دعواتهم وصلواتهم، وإذا خلوا بالعبادات وتركوا الدنيا وزهدوا فيها، فإنما ذلك منهم على سبيل المتجر والمرابحة في هذه بعينها، كأنهم تركوا قليلها ليصلوا إلى كثيرها، وأعرضوا عن الفانيات منها ليبلغوا إلى الباقيات , إلا انك تجدهم مع هذا الاعتقاد وهذه الأفعال إذا ذكر عندهم الملائكة والخلق الأعلى الأشرف وما نزههم الله عنه من هذه القاذورات، علموا بالجملة انهم أقرب إلى الله تعالى وأعلى رتبة من الناس وأنهم غير محتاجين إلى شيء من حاجات البشر، بل يعلمون أن خالقهم وخالق كل شيء الذي تولى إبداع الكل هو منزه عن هذه الأشياء متعال عنها غير موصوف باللذة والتمتع مع التمكن من إيجادها، وإن الناس يشاركون في هذه اللذات الخنافس والديدان وصغار الحشرات والهمج من الحيوان، وإنما يناسبون الملائكة بالعقل والتمييز. . .) وبذا نراه وضع لنا أساساً سامياً نبيلاً في تقدير اللذات، وأن أسماها ما كان ربانياً. ثم جل معنا إلى أن نصل إلى قوله: (إن الإنسان ذو فضيلة روحانية يناسب بها الأرواح الطيبة التي تسمى ملائكة، وذو فضيلة جسمانية يناسب بها الأنعام لأنه مركب منها، فهو بالخير الجسماني الذي يناسب به الأنعام مقيم في هذا العالم السفلي مدة قصيرة ليعمره وينظمه ويرتبه حتى إذا ظفر بهذه المرتبة على الكمال أنتقل إلى العالم العلوي وأقام