فيه دائماً سرمداً في صحبة الملائكة والأرواح الطيبة). ثم تراه يقرر أنه ليس يعني بالعلوي المكان الأعلى في الحس، ولا بالسفلي المكان الأسفل في الحس، بل كل محسوس فهو أسفل وإن كان محسوساً في المكان الأعلى، وكل معقول فهو أعلى وإن كان معقولاً في المكان الأسفل. ثم نراه يذكر لنا أن للحسن لذة عرضية على حدة، وأن للعقل لذة ذاتية على حدة، وأن من لا يعرف اللذة الذاتية لا يعرف اللذة بالحقيقة ولا يلتذ بها. وهو يسمي اللذة الناقصة التي تشاركنا فيها الحيوانات لذة انفعالية، ويسمي التامة التي يختص بها الحيوان الناطق لذة فعلية أي فاعلة، وسمى اللذات الحسية المقترنة بالشهوات عرضية لأنها تزول سريعاً وتنقضي وشيكاً بل تنقلب لذاتها فتصير غير لذات بل تصير آلاماً كثيرة أو مكروهة بشعة مستقبحة، أما اللذة الذاتية فتسمى كذلك لأنها لا تصير في وقت أخر غير لذة ولا تنتقل عن حالتها بل هي ثابتة أبداً. وخرج من هذا الحكم بأن السعيد تكون لذاته ذاتية لا عرضية، وعقلية لا حسية، وفعلية لا انفعالية، وإلهية لا بهيمية. ثم يحدثنا بعد ذلك عن الجوهر الإلهي الذي في الإنسان وأنه إذا صفا من كدورته التي حصلت فيه من ملابسة الطبيعة ولم تجذبه أنواع الشهوات وأصناف محبات الكرامات، اشتاق إلى شبيهه ورأى بعين عقله الخير الأول المحض الذي لا تشوبه مادة؛ فأسرع إليه وحينئذ يفيض نور ذلك الخير الأول عليه، فيلتذ به لذة لا تشبهها لذة، ويصير إلى معنى الاتحاد، استعمل الطبيعة البدنية أم لم يستعملها، إلا انه بعد مفارقته الطبيعة بالكلية أحق بهذه المرتبة العالية، لأنه ليس يصفو الصفاء التام إلا بعد مفارقته الحياة الدنيوية. فترى من هذا كله إعزاز الجانب الروحي في الدنيا، وهو بلا ريب في الآخرة أعز، وفي الجنة أوفى، فأحب أنا إذا ذكرنا الحور العين مثلاً وأنهن كما ذكر الغزالي غنجات عاطرات آمنات من الهرم والبؤس مقصورات في الخيام، وإذا ذكرنا انه يطاف على المؤمنين وحورهم بأكواب وأباريق وكأس من معين بيضاء لذة للشاربين وأن الذين يطوفون خدام وولدان كأمثال اللؤلؤ المكنون في مقام أمين في جنات وعيون في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر (كما جاء في القرآن في سورة الرحمن والواقعة، وغيرهما) أحب إن يكون فهم لذة هذا كله ما ذكرنا من تقديس خالق هذه الصور وهذه الجنات وهذه الأنهار، وفهم أن اللذة الروحية التي يتمتع بها المؤمنون من كل هذا هي أسمى مما يصوره بعضهم من أن المقصود هو أن يباضع