أخذت تنهج طريقة أختها الأوربية وتفتح عينها على الحياة وترشف من رحيق أسرارها ومثلها، معتزة بوجودها، مكتسبة كل ما يزيدها نموا وارتقاء، وبهذا حق عليها أن تدفع ثمن هذه الحرية غاليا، وتتقبل راضية أو كارهة قانون الحياة الدائم، فلا خلود إلا لمن ظفر بشرطه وأوفى على غايتة. نعم لم يعد يسيرا في هذا العصر لأثر أدبي أن يظفر بالخلود، لأن التنافس يزداد شدة كلما تقدمت الحضارة خطوة، ولأن ذوق الجمهور قد أخذ يدق وسمو حتى ليكاد يصبح ناقدا عاما، ووجدانه قد بدأ يزخر بالآمال والعواطف حتى يأبى إلا أن يحتسي كأس الحياة حتى الثمالة، وأرادته ايضا قد غدت حرة قوية مؤثرة حتى لا تقنع إلا بنشدان المثل العليا. وهذه كلها نتائج طبيعية لنشر وسائل التهذيب من تعليم وصحافة وأقاصيص وتمثيل وخيالة، ولحياته بروح الدساتير الحديثة التي تكفل له الحرية وتسيغ له الاشتراك في الحكم والدولة، ولشدة أمتزاج الشعوب اليوم بعضها ببعض وسرعة تبادل الأفكار والمشاعر، فهل يقنع هذا المجهود الطامح المهذب إلا بأدب يمثل قانون الخلود فقرة فقرة؟ لابد إذا لوجود هذا الأدب السامي من أديب يملك بفطريه نفسا شاعرة نبيلة دقيقة الحس كميزان الذهب، تتلقى الإلهام والوحي من محيط الوجود كما يتلقى الجارس (الراديو) موجات الأثير حاملات الأغاني لا يشعر بها غيره، وعقل صافياً كالعدسة المكبرة تواجه الشيء فيتجلى فيها بخفاياه وحذافيره، قد صقلته التربية ووسعت أفقه التجارب والثقافة المحيطة، وقدرة ماهرة على التنسيق والتنويع وحسن الصياغة بابتكار واستقلال.
وندع الآن مشكلة اللفظ وما تنتجه من مسائل الفصاحة والبلاغة فإنما نحن نتحدث عن الجوهر لا عن العرض، ونبحث في القانون الثابت المطرد لا الأمر العارض النسبي، ولسنا نعني بذلك ان نهمل البتة ناحية اللفظ فنكسو الحسناء الجميلة ثوباً خلقا مهلهلا، بل الذي إليه نقصد أن سر خلود الأدب أصالة إنما هو في معناه، ثم تأتي مسألة اللفظ بعد ذلك مختلفة باختلاف اللغات متفاوتة بتفاوت الأذواق، فكم في اللغات العامية من معان رائعة حية الأثر تتداولها الألسنة رواية لا تدوينا، وبداهة لا تعليما، وهي خالدة على مر الأجيال في معزل عن اللغة الفصحى بل في نفور منها أن تشوه جمالها، وكم في اللغات الأعجمية من آثار خالدة أيضاً لم تدرك لغتنا الفصحى شأوها بعد ولا يضيرها أن تؤدي برطانة الأعجام! فمسألة الخلود في الحقيقة مسألة المعنى وهي الأمر الثمين النادر، أما اللفظ فيسير