للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الثمن بتعلم اللغة والاطلاع على أساليبها. وكأننا بهذا نعكس رأي علماء البلاغة الأقدمين إذ كانوا يقولون: ان المعاني منثورة في الطريق يعرفها الفصيح والمفحم والعالم والأمي والبدوي والحضري، ولكن الفرق كله بين هؤلاء في اختيار اللفظ وحسن التركيب!

ولعمري ما أشبههم في ذلك بمن يقولون إن الذهب والفضة مطروحة في الطرقات، ولكن المشكلة المعضلة حقا إنما هي: كيف يحمل الفقير تلك الكنوز؟!

وبنظرة نرددها بين غاية الخلود البعيدة المدى، وبين أدبنا الحديث، نستطيع أن ندرك كيف ينحرف هذا الأدب عن الهدف الذي يجب أن يقصد؛ ثم إذا تتبعنا خط الميل عن الجادة المستقيمة لم نلبث أن نقف على نقطة الانحراف أو رأس المفترق، وليست هي فيما أرى الا حيث يتدفق سيل التقليد الجارف، فيكتسح أدبنا أمامه ويحول بصره عن الهدف إلى صحراء العصور الخالية، ولقد سار أدبنا منذ نشأته في هذا الطريق المنحرف مراحل واسعة، ثم جاء الأدباء المجددون والشباب المثقف الحديث فحاولوا أن يمسكوا بزمامه ويردوه إلى غايته، فإذا به يستقيم ويعدل سيره في أنوارهم وهو حقيقة يوشك ان يعتدل. بيد ان انكساره القديم قد ترك في بصره بعض الزيغ وفي هيكله بعض الاعوجاج!

كانت الروح الفردية هي عماد الأدب القديم، وما زالت هي أيضا عماد أدبنا الحديث، فكما كان رجل الصحراء ينشد أدبه الغنائي في حدود نفسه معتزاً بشخصيته دون غيرها، حين يصف حبه وهيامه وحوادث غرامه أو حين يصف ناقته وفرسه أو يفخر بشجاعته وبأسه، كذلك نحن لا نبرح مقيدين بخطته مقتفين أثره لا نعني أكثر ما نعنى إلا بالتغني بهذه الأغراض الفردية الضيقة من حب شخصي وحزن وسرور ورثاء ومدح لا تعدو حدود النفس، ولست أدري كيف نمهد لنا عذرا عن هذه الأثرة التقليدية إذا وضحت أمامنا أعذار الرجل الصحراوي وقد كانت طبيعة بيئته ونظام حياته لا يسمحان ببناء مجمع مترابط ممتزج بل تلحان على كل فرد أن يكون هو مجتمع نفسه وحكومة شخصه؟

وهل تلك الحياة المفككة هي حياتنا اليوم؟ أليست دعامة هذا العصر المتحضر هي قوة روح الاجتماع وتشييد بناء الوحدة وتربية الفرد ليفنى في المجموع؟ إذن فلن ينطلق أدبنا من رجعيته الا إذا جارى العصر وساير الحياة فاندمج في المجتمع بما فيه من سياسة ودين وتربية وأخلاق وغاص إلى أعماقه وترجح على أمواجه؛ متشربا العواطف الإنسانية لا

<<  <  ج:
ص:  >  >>