الأمر المهم في جريدة (البلاغ) المشهورة منذ خمسة أحوال في مقال عنوانه: (العربية، أحاديث فيها) حين أقمت في القاهرة - قبل المرابطة في هذا الثغر - وكنت أكتب (أحرر) في تلك الجريدة
لما تقدم الغربيون ونجم فيها العربانيون وأراد هؤلاء أن يخبروا الأمم العربية والإسلامية الخبرة البليغة ليخدموا دولاتهم في سياساتها أو لمآرب أخرى ذهبوا إلى مثل (الفرزدق) يستنطقونه ويستهدونه، والعالم العاقل لا يضل سبيله، ولا يخطئ حين يختار دليله. وأعمال العربانيين في هذا المعنى، شهرتها تغني عن الإفاضة فيها
ولما كانت المدنية العربية وهم عمرو بن بحر (الجاحظ) وعلي بن عبيده (الريحاني) وعلي بن محمد (أبو حيان التوحيدي) وحبيب بن أوس الطائي (أبو تمام) والوليد بن عبيد (البحتري) واحمد بن الحسين الكندي (المتنبي) ونظراؤهم، فلما عزم هؤلاء النابغون أن يحذقوا لغتهم، ويرصنوا أدبهم، بادروا إلى مدرسة (الفرزدق)، وجثوا بين يديه، وتأدبوا في العربية عليه، ومن صار إلى الينبوع العد ذي النمير السلسال وكرع فيه ارتوى، ومن سعى إلى منجم الألماس ومعدن الذهب رجع جذلان غنياً
وإني لموقن الإيقان التام أن الأمم العربية يوم ترتقي بعد ثلاث مائة سنة (إن شاء الله تعالى) ستحرث الجاهلية والإسلامية (الأموية) حرثاً، وستأصلها علماً أصلاً فلا تذر لفظة من ألفاظها - وإنها لكثيرة - شردت عن أصحاب المعجمات إلا اصطادتها، ولا خبراً مستعجماً إلا ابتحثته ووضحته، ولا ديواناً لكبير وصغير من الشعراء والشواعر إلا أظهرته. وستكرم دواوين لؤمت طبعاتها، وسود التجار الفجار (أو السماسرة) وجوههم عند الله بتشويه صفحاتها.
وستفتن علماء ذاك الزمان الآتي في التأليف في أدب الجاهلية والإسلامية افتناناً. وسيفضلون العربانيين والأئمة من العربيين السابقين (بذوق) حرمه الله الإفرنجي المستعرب أي حرمان، وبذرائع من الطباعة وغير الطباعة لم يحظ بها العالم العربي من قبل. وسيفهم أولئك المرتقون المتقدمون من مثل قول المأمون:(خير الكلام ما شاكل الزمان) ما لم يبد للمنتمين إلى الأدب العربي من العصريين، والمفقحون يجتلون ما لا يبصره المصأصئون