الأديب. ذلك أن الرحمة عاطفة تدركها النفوس الإنسانية جميعاً، ولكن هذا المنظر الطبيعي الخاص لا يدركه إلا أهله فقط
وليس معنى هذا أن زعامة الفنان صاحب الجمهور الكبير افضل من زعامة الفنان صاحب الجمهور الصغير. فقد يحدث أن يستشعر فنان بمشكلات تزحف نحو الإنسانية من بعيد فيراها، ولا يراها معه من الناس أحد غيره، وعندما تمتلئ نفس هذا الفنان شعوراً بهذه البشائر أو النذر، وعندما يعبر عنها بفنه، فإنه قليلاً ما يجد الناس الذي يتذوقون تعبيره ويوافقون عليه ويطمئنون إليه، وإنما يغلب أن تثور عليه الجماهير، ويغلب أن يتصدى له من زعماء الفن في عصره من تقاعد بهم الحس فيزمونه بالعجز أو الخبل، أو الالتواء أو شتى هذه التهم التي يتقاذف بها المتقاطعون الذين لا يتفاهمون، والذين لا يريدون أن يتفاهموا. وكثيراً ما ينكمش الفنان السباق في حنايا فنه وتلافيفه فيقضي ما يقضي من العمر وهو غريب عن عصره، حتى إذا ولى عن الحياة، وولى معه جيله وجاء بعده أناس قربتهم الحياة مما كان يراه ويتحدث عنه آمن هؤلاء به، واستعادوا فنه واسترجعوه، وأقاموه من أنفسهم في مقامه الحق. . . وجعلوه هو الزعيم، فهم أحياء وزعيمهم ميت. . . وفي هذا ما فيه من عدل الثأر الذي له عند آبائهم الذي أنكروه، فهم كلما ذكروا زعيمهم وطلبوا له الرحمة لعنوا آباءهم لأنهم كانوا كافرين.
ويقابل هؤلاء الزعماء السباقين زعماء آخرون زعامتهم معكوسة فهم لا يقودون الجماهير، وإنما يجرون وراء الجماهير، وقد يد هؤلاء من وفرة التابعين ما لا يجده الواثبون الصاعدون. وهؤلاء الزعماء الأذناب لونان، منهم من تسوقه نفسه إلى استرضاء الجماعات لأنه يحب رضا الجماعات ولأنه بطبعه فرد من أفراد الجماعات لا يزيد عنهم حساً، ولا يزيد عنهم قدرة على التعبير، وإنما كل ما يميزه هو الجرأة على التعبير والانطلاق به. ومنهم من يتسقط هذا الرضا عند الجماعات ليتسقط معه الربح المادي والجاه والشهرة، وهذا أدنأ من صاحبه وأقرب إلى التجارة منه إلى غيرها. فالفنان في غير التجارة لا يعبأ (بالزبائن) ولا يحسب حساباً لأذواقهم. أما التاجر وحده فهو الذي يستقصي طبائع الأسواق مستعرفاً أي البضائع يروج فيها وأيها يبور
وليس هذا من طبع الزعامة في شيء، وإنما هو من ملق العبيد الذي تضيق عنه أخلاق