بمصر هو نموذج من مدنية الإسلام الأولى التي قامت على أساس استثمار الموارد الطبيعية، وتنمية الثروة العامة، لا على نصب شباك المعاملات الربوية لسلب نقود الأمة وإفقارها، ثم الاستيلاء على مواردها وممالكها، بحجة المحافظة على المصالح والأموال، كما فعل الأجانب بملكنا وحكوماتنا. فنحن معشر المسلمين لو كنا متمسكين بقرآننا الذي حرم الربا المفضي إلى إضاعة الثروة والملك، وأعددنا رجالاً لاستخراج كنوز أرضنا، وتعمير بلادنا، وتعزيز شأننا، لكنا بقينا مستقلين بأنفسنا، أحراراً في ملكنا، فكيف يكون الربا الذي كان السبب في استعبادنا وسيلة لإنقاذنا وإسعادنا؟
وقول الأستاذ الطنطاوي: بقي أن البنك لا يستعمل المال في التجارة، ولكن يستثمره بطريق الربا أيضاً، وهي التي لا وجه لها عندي. أقول قد أوضح هو أيضاً الفرق في مقاله أو سؤاله بين الربا المرهق (على طريق الفائدة المركبة) أي الربا الجاهلي، وبين معاملات المصارف، فقال عن الأول على طريق الاستفهام التقريري: وأنه حرم لما ينشأ عنه من خراب للبيوت، وتنازع بين الناس، وتسرب البغضاء إلى النفوس؟ وقال عن الثاني: فأنت حين تعامل المصرف لا تستغل حاجته، ولا ترهقه بالفائدة بل هو الذي يعرضها عليك، فهو أشبه بشركة المضاربة (قلت): وهذا يعود إلى الفرق بين ربا النسيئة الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية مثل أن ينسئ الدائن (أي يؤخر) دينه ويزيده المدين في المال، وكلما أنسأه أي أخر الدين في المدة زاد في المال، حتى تصير المائة عنده آلافاً مؤلفة؛ وربا الفضل الذي كان تحريمه وسيلة لا قصداً ودل عليه حديث أبي سعيد الخدري (رض) عن النبي (ص): لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فأني أخاف عليكم الرماء (أي الربا). فربا النسيئة الجاهلي محرم لذاته، وفي الصحيحين: إنما الربا في النسيئة. وفي رواية: لا ربا إلا في النسيئة. وربما الفضل محرم لسد الذريعة أي لكيلا يكون وسيلة إلى ربا النسيئة، وما حرم لذاته لا يباح إلا للضرورة كالميتة والدم ولحم الخنزير، وما حرم سداً للذريعة أبيح للحاجة وللمصلحة الراجحة، وبنى على ذلك الإمام ابن القيم في أعلام الموقعين جواز بيع الحلية من الذهب والفضة بنقود منهما تزيد على وزنها في مقابلة ما فيها من الصنعة. واستدل على هذا الجواز بأدلة منقولة ومعقولة أيضاً، واستشهد على جواز ربا الفضل للمصلحة الراجحة بإباحة النبي (ص) بيع العرايا، وهو من بيع المتماثلين في الجنس مع عدم القبض