إن مصر - لحكمة أرادها الله بالعرب والمسلمين - هي البلد الوحيد الذي انقرضت لغاته القديمة لتحل محل اللغة العربية، وهذا حظ لم تظفر بمثله أمة عربية: فالأقطار الشامية تحيا فيها اللغة السريانية واللغة العبرانية؛ والبلاد العراقية تحيا فيها اللغة البابلية واللغة الكردية، ولغات أُخر يعرفها أهل تلك البلاد؛ والجزيرة العربية تحيا فيها لهجات مختلفات؛ والبلاد المغربية فيها ما تعرفون من لغات متنافرة بعضها قديم وبعضها حديث، والرجل العربي قد يحتاج في تلك البلاد إلى ترجمان
وقد عصفت عصور الظلمات بلغة القرآن في كثير من الممالك العربية، فاضطرت بغداد وكانت عروس العروبة إلى أن تتكلم اللغة الفارسية بضعة قرون، ثم قهرها الظلم بعد ذلك على أن تتكلم اللغة التركية زمناً غير قليل؛ والشام في مختلف أقطاره تعرض كارهاً لأمثال تلك الخطوب. ومع هذا لطف الله بمصر فظلت موئل اللغة العربية، وكانت المساجد في القاهرة وفي سائر الحواضر المصرية مدارس جامعة لنشر علوم اللغة والدين، وما يزال الناس يذكرون كيف حفظ الأزهر الشريف مخلفات الفُرس والهنود والعراقيين والشوام والمغاربة والأندلسيين في ميادين المعقول والمنقول
فالذين يهمسون بأن اللغة العربية في مصر لغة أجنبية هم قوم مجرمون يستأهلون التأديب وكيف تكون لغة أجنبية وقد تغلغلت في دمائنا وأرواحنا نحو ثلاثة عشر قرناً، وكنا الدرَّع التي تصد ما يوجه إليها من سهام ونبال؟
إن اللغة العربية في مصر أرسخ من اللغة الفرنسية في فرنسا ومن اللغة الإنجليزية في إنجلترا ومن اللغة الألمانية في ألمانيا، لأن تلك اللغات بصورتها الراهنة لم تعش في بلادها ربع المدة التي عاشتها اللغة العربية في بلادنا، والفرق بيننا وبينهم أنهم سلموا من الدسائس وابتلينا نحن بالدسائس
وهل يستطيع شاعر مثل فيكتور هوجو أن يجد في أجداده من تكلم اللغة الفرنسية كما يجد حافظ إبراهيم من أجداده من تكلم اللغة العربية؟
وأين كانت اللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية في الوقت الذي ظهرت فيه أشعار أبي تمام والبحتري، وأبن الرومي، والشريف الرضي باللغة العربية؟
وهل في الدنيا لغة عاصرت القرآن وبقيت مفهومة لأهلها على نحو ما يفهم القرآن في