ومن حدثكم أن أمثال الإنجليز والفرنسي والطليان والألمان يتكلمون كما يكتبون فاعرفوا أنه غافل جهول
وكيف تصح تلك الدعوى العريضة وقد عرف كل من عاش في البلاد الأوربية أن العوام لهم لغة سهلة بسيطة لا تقاس إلى لغة من يحيون في البيئات العلمية والأدبية؟
فمن كان في ريب من ذلك فليشهد بعض الأفلام الفرنسية التي تمثل لهجات الصناع والعمال أو تصور مناحي التعبير عند أهل الشمال أو أهل الجنوب، فإن فعل فسيعرف أن لغة التخاطب تختلف قليلاً أو كثيراً عن لغة الخطابة ولغة الإنشاء
إننا نعرف أن العصر العباسي كان عصر ازدهار اللغة العربية في العصور الماضية، فهل تظنون أن عامة الناس في البصرة والكوفة وبغداد كانوا يتكلمون كما يتكلم المبرد والجاحظ ومسلم ابن الوليد؟
إن في أدباء فرنسا لهذا العهد من يشكك في قدرة جمهور الأدباء هناك على التعبير الأصيل باللغة الفرنسية، ولأحد مؤلفيهم كتاب أسماه:
فهل يكون معنى ذلك أن اللغة الفرنسية خفيت أصولها على أدباء باريس وليون؟
أم يكون معناه أن الغيرة على اللغة تثور في صدور الأدباء من حين إلى حين بسبب التسامح الذي يشهدونه في تعابير بعض الكتاب كما فعل عبد القاهر الجرجاني في مقدمة دلائل الإعجاز حين رأى ما يشبه ذلك عند كتاب القرن الخامس؟
إن الناس عندنا لا يفرقون بين الحالات التي يختلف فيها بعض الكتاب عن بعض، وهم يظنون أن كل إنشاء يخالف إنشاء الجاحظ أو ابن العميد هو من شواهد انحطاط اللغة العربية؛ وهم يتوهمون أننا تفردنا بين الأمم بالحيرة بين لغتين: إحداهما لغة التخاطب والثانية لغة الإنشاء
ولو كان ذلك المتخرج في كلية الآداب قد تخرج في قسم اللغة العربية لا في قسم التاريخ لعرف أن الجاحظ على فضله نص على أن هناك مواطن لا يجوز فيها التعبير بغير اللغة العامية، وهذا يشهد بأن حياة اللغة العامية ليست نذيراً للغة الفصيحة بالهلاك، فالذوق يوجب أن يكون لكل مقام مقال وألا نحدث العوام كما نحدث الخواص
وهل كان أهل مكة والمدينة يتكلمون فيما بينهم بنفس الأسلوب المعروف في القرآن