إن القرآن نزل على العرب بلسان عربي مبين، ومع ذلك لا يمكن القول بأن العرب لذلك العهد كانوا يعبرون عن ذوات أنفسهم في شؤونهم اليومية والمعاشية بنفس الأسلوب الذي عبر به القرآن عن الشؤون الدينية والدنيوية
فكيف يطلب منا أن نتكلم كما يتكلم شعراؤنا وخطباؤنا في جميع الشؤون، وألا قيل إننا خوارج على اللغة العربية؟
وهل يطلب من تجار الغورية بالقاهرة أو تجار الشورجة في بغداد أو تجار الحميدية في دمشق أن يتكلموا كما يتكلم علماء مصر والشام والعراق؟
وهل يتكلم سكان محلة بِلْ فيل في باريس كما يتكلم أساتذة السوربون؟
أنا أعرف أن أستاذنا برونو كان يوصينا بأن نستمع إلى محاورات العوام في المترو، ولكن لهذه الوصية مدلول آخر، فهو كان يريد النص على أن لغة التخاطب فيها مرونة قد لا توجد في لغة الإنشاء، وأن من العقل أن ننتفع بتلك المرونة في بعض المقامات لأن انصراف العوام عن الزخرف والتنميق أعطى لغتهم خصائص من السهولة والوضوح، وهما من أهم عناصر البيان
وأؤكد للقراء أن الفرنسي الذي ينتقل من الشمال إلى الجنوب قد يجد من اختلاف الألفاظ والتعابير ما لا يجده العربي حين ينتقل من مصر إلى العراق
فكيف يجوز لبعض الناس أن يوهم القراء بأن العرب تبلبلت ألسنتهم وأن التفاهم بين خواصهم وعوامهم صار من المعضلات؟
إنه لا مفر من الاعتراف بأن اللغات العامية لها مكان في كل أرض، لأنها لغات بسيطة سهل تؤدي الأغراض اليومية في المعاملات. ولو فرضنا اللغة الفصيحة على جميع الناس لكان ذلك ضرباً من الإرهاق. . . ولا خطر على العرب من أن تكون لهم لهجات عامية تقترب أو تبتعد وفقاً للظروف الجغرافية، ولكن الخطر كل الخطر هو في جعل اللهجات المحلية أصولاً ثابتة يتدارسها العلماء ليعطوها من السلطة الأدبية ما يمكنها من الانفصال عن اللغة الفصيحة بعد جيل أو جيلين، كما يصنع الأستاذ فلان الذي يعد نفسه ليكون (أصمعي) اللهجة المصرية في هذا الزمان!