للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الأيام، فإن وقائع التاريخ لها رجعات، والأحقاد الدفينة تنشرها الحوادث من زمان إلى زمان

فإن زعم أحمد أمين أن دوسر كتيبة النعمان بن المنذر كانت عند العرب أقوى جيش عرفه التاريخ فليعرف إن شاء أن تلك الكتيبة تستحق ذلك التهويل لأنها كانت نواة الجيش الذي:

به علمتْ صُهْب الأعاجم أنه ... به أعربتْ عن ذات أنفسها العرْبُ

وليس يهمني بعد ذلك أن أنقض قول أحمد أمين إن العرب يرون فضائل الجاهليين خير الفضائل ورذائلهم شر الرذائل، لأن هذا الكلام لا يحتاج إلى نقض فهو أوهى من بيت العنكبوت. ولو صح أن العرب كانوا يرون حاتماً أكرم الناس جميعاً؛ ويعتقدون أن مادراً أبخل الناس جميعاً لما كان في ذلك بأس من الوجهة الذهنية، لأن تجسيم الصفات وتضخيمها من الأمور التي استساغها العُرف في جميع البلاد. وهل يعتقد أحمد أمين حقيقة أن العرب كانوا يريدون القول بأن حاتماً أكرم من جميع الناس في سائر بقاع الأرض، وأن ما دراً أبخل من كان ومن سيكون في المشرق والمغرب؟ ذلك غير معقول

لا يهمني أن أنقض هذا الجانب من كلام أحمد أمين فهو إغراق في التوهم والتخمين، وإنما يهمني أن أشرح مسألة نقدها الدكتور عزام بصورة تغاير الصورة التي عرضها بلطف ورفق مراعاة لمزاج الأستاذ أحمد أمين الذي يتأدب في معاملة الأحياء ويتمرد في محاسبة من أصبحوا في غيابه التاريخ!

إن أحمد أمين حكم بأن العرب في جاهليتهم انتزعوا صور التعبيرات والتشبيهات والمجازات والاستعارات من البيئة التي عاشوا فيها، فما يجوز لنا نحن أن نجاريهم في تشبيهاتهم ومجازاتهم واستعاراتهم لأننا نواجه بيئة غير بيئتهم

وهذا الحكم صحيح، ولكن يجب أن يفهم أحمد أمين الحقيقة الآتية:

في اللغة العربية تعابير كثيرة نشأت في الأصل مصبوغة بالصبغة البدوية، ولكنها صارت على الزمن ميراثاً حلالاً يملكه أبناء العرب من جيل إلى جيل، وقد نُسَي معناها الأول أو كاد بحيث لا يفطن الكاتب أو القارئ إلى أنها منقولة عن صورة بدوية

فالذي يقول: (دون ذلك خرط القتاد) لا يتصور الخرط ولا القتاد حين ينطق بهذا التعبير. والذي يقول: (هذه مشكلة أعقد من ذَنَب الضَّب) لا يتصور العُقَد في ذيل ذلك الحيوان، وإنما يأخذ هذا التعبير قوته من الصورة المرسومة في أذهان من تداولوه على اختلاف

<<  <  ج:
ص:  >  >>