فأنا أحتقر الضرورات المادية للعيش، وأكتفي بالقليل حين لا أجد غير القليل، وأتأسَّى بالتعبير الذي كنت أعتصم به يوم كانت تكرثني الفاقة في باريس، التعبير الذي يقول: '
فقد وطنتُ نفسي على الأزمة التي تقضي بها جوائح الحرب، وقلت: لعل في ذلك خيراً وأنا لا عرف!
ولكن هناك أشياء لا أستغني عنها أبداً، وهذه الأشياء هي ورق الطباعة الذي يحتاج إليه المؤلفون في كل وقت. وقد صرت مؤلفاً من حيث لا أحتسب، وتلطف القراء فأوهموني أن لي في أنفسهم منزلة توجب أن أحسب لرضاهم ألف حساب!
وهل كنت أول مؤلف خدعه القراء؟
أليس في مصر نحو عشرين أو ثلاثين مؤلفاً ينفقون أرزاقهم وأرزاق أطفالهم فيما يشترون من الورق وما يقدمون إلى المطابع؟
أليس في مصر عدة مجلات أدبية يتنازل أصحابها عن أقواتهم ليفوا بالعهد للقراء؟. . .
قامت الحرب، ولي في المطابع ثلاثة مؤلفات، منها كتاب نفذت طبعته منذ أشهر طوال، وهو يطلب كل يوم. . . ولهذا الكتاب منزلة في قلبي، لأنه من محصول دار المعلمين العالية في بغداد، هو كتاب (عبقرية الشريف الرضي)، الذي أعلن عن طبعته الثانية بالمجان في مجلة (الرسالة) لأن صاحبها مؤلف وصحفي، وهو يعاني من عُنف تجار الورق أضعاف ما أعاِني. . .
وأعترف بالحق فأقول: شرعتُ في طبع تلك الكتب مطلعَ الصيف، ثم ضاق جيبي عما أريد، فاعتللتُ لأصحاب المطابع بأني أحب أن أقضي الصيف في شغل ألطف من الطبع والتصحيح: وهو مشاهدة اللؤلؤ المنثور فوق شواطئ الإسكندرية وشواطئ بور سعيد وشواطئ دمياط
وهل يكثُر على رجل في مثل حالي أن يعطّل مؤلفاته ليمتع عينيه بمشاهد الملاح؟ ولكن لا بدَّ مما ليس منه بدّ