من كيانها فتدهور نفوذ الملك، وانحل سلطان الدين، ومال المفكرون إلى تمجيد العقل، معلنين التمرد على كل قديم. وفي هذا الجو نشأ (جان جاك روسو) شريداً بائساً، حييّا مسرفاً في الحياء، لا يحسن عشرة الناس ولا يألف المجتمعات؛ يعشق الطبيعة ويجد في رحابها مسرحاً لخياله الوثاب، لم يوهب العقل الخالق الممتاز، ولكنه أوتي القدرة على التعبير المليء بالقوة والحرارة والإيمان، فنصب نفسه لمحاربة الإلحاد بالطعن في العقل والمدنية وتمجيد القلب والفطرة، بعد أن أخفق (بيركلي) في نصرة الإيمان الديني بإنكار المادة، والاقتصار على الاعتراف بوجود العقل - أو الروح - وتهيأت له فرصة الإعلان عن رأيه، حين طرحت أكاديمية (ديجون) على الكتاب مسابقة عن أثر العلوم والفنون في صلاح الأخلاق أو فسادها، فتقدم (روسو) للاشتراك فيها، وقد وطن العزم على الطعن في العلوم والفنون، وبيان ما يترتب على انتشارها من سيئ الآثار، وتوالت بعد ذلك حملاته وإلى القارئ الكريم خلاصة رأيه:
تحدث (روسو) عن الرجل البدائي الذي يعيش في أحضان الطبيعة، بسيطاً هانئاً ببساطته، جاهلاً قانعاً بجهالته، مسترسلاً على فطرته وطبيعته؛ ثم قارنه برجل المدنية الفخور بعلومه، المزهو بفنونه، الغارق في حياته المعقدة، وانتهى من هذه المقارنة بترجيح الأول على الثاني، مؤيداً رأيه بمثل استقاها من تاريخ المصريين واليونان ومن إليهم. فمصر المجيدة التي كانت مدرسة الدنيا بأسرها، ما كادت تصبح أم العلوم والفنون، حتى أغار عليها قمبيز، وأعقبه اليونان والرومان والعرب والأتراك على التوالي، فهبطت إلى الهوان على سلم صيغت درجاته من علم وفن. وكذلك يقال في غيرها من كبرى الأمم، والتاريخ شاهد عدل على صدق ما نقول، فمتى نشأت الفلسفة تدهورت الأخلاق، وأنى ظهر العلم اختفى الشرف، وليس الرجل المفكر إلا حيواناً فاسد المزاج مناقضاً للطبيعة، فالفكر وكل ما أبدعه من ألوان المدنية والحضارة تمرد على إلهام الفطرة ووحي الطبيعة، ومن هنا نشأ شقاء بني الإنسان. فالإنسان الأول خيّر بطبيعته، طيب بفطرته، قانع ما وجد اللقمة التي يسد بها رمقه، والخرقة التي يستر بها عورته، والمرأة التي يقضي معها حاجته، ومتى انقضت حاجته، فقد انطفأت رغبته، فإذا ولدت المرأة تعهدت طفلها بالرعاية كما تفعل أنثى الحيوان التي لا تعرف إلا إلهام الطبيعة الرحيمة، فإذا شب الولد في ظل هذه الرحمة