الطبيعية تكفل بحياته، شأنه شأن سائر أنواع الحيوان، وعاش متساوياً مع رفاقه يتبادلون المحبة والوئام والإخاء، لا يزهو أحد على أقرانه بعلم ولا مال، وبهذا كانوا سعداء، ثم تمردوا على إلهام الطبيعة، وخضعوا لإملاء العقل، فأدركتهم المدنية بعلومها وفنونها، وسرعان ما طاردت النعيم الذي عاشوا في رحابه، وسلبتهم باسم النظام ما كانوا يتمتعون به من ألوان الحرية، وميزت بعضهم على بعض فجعلت منهم أغنياء وفقراء، وسادة وعبيداً، فكان هذا مبعث الداء وأصل الشقاء. ولقد كانت الإنسانية تنجو من الجرائم البشعة والحروب الدامية التي ارتكبت في سالف أيامها من جراء الطمع، لو أن أول من أحاط قطعة أرض وقال: هذه ملكي - قد وجد رجلاً شهماً يتقدم إلى هذه الأرض فيحطم السياج الذي أحاط بها، أو يردم الخندق الذي التف حولها، ويصيح في قومه: أيها الناس حذار أن تصدقوا هذا الكذاب الأشر. . .
وما من دواء لهذا الداء إلا بالرجوع إلى أحضان الطبيعة، ورياضة القلب والاعتماد على الفطرة وإهمال العقل وما يترتب عليه من ألوان العلوم ومظاهر المدنية والحضارة
تلك صورة مصغرة للكمال الذي يحلم به (روسو) في القرن الثامن عشر. وهي على خلاف ملحوظ مع الكمال الذي يحلم به بيكون في القرن السابع عشر. ويعنينا من هذا أن (روسو) يهاجم العقل وكل ما يترتب عليه من علم ومدنية، ويرجو لو عاد الناس إلى حضن الطبيعة، وعاشوا سعداء بما هم عليه من قناعة وجهالة. أما (بيكون) فيرى الكمال ماثلاً في إنسان قد مكنته قوى العقل وتجارب العلم من إخضاع الأرض والسماء والماء لسلطانه، فأحسن استغلالها لمصلحة المجتمع الإنساني، وتحقيق السعادة لأبنائه، ففي مدنية العقل الناجح غي إخضاع الطبيعة للإنسان، يكمن الكمال عند بيكون، فأي المذهبين أبعد عن الخطأ أو أدنى إلى الصواب؟
٥ - مناقشة روسو وبيكون
ينبغي أن نعترف إنصافاً لروسو بأن آراءه قد صادفت هوى من نفوس قرائه، وأنها سعت إلى قلوب الكثيرين منهم وهيمنت على عواطفهم، وكان لها بالغ الأثر في قيام الثورة الفرنسية بعد ذلك، وكان من آثارها أنها حادت بالأدب عن العقل واتجهت به نحو العاطفة، وجعلت السيدات في صالونات الأدب يسرفن في التزام الظهور بما يدل على الشعور