الرقيق والقلب الرحيم، دون العقل الراجح والفكر المتزن، وربما كان لها أثرها في انتعاش الشعور الديني عند القراء
ولكن آراء (روسو) مع هذا حافلة بالأخطاء - فيما يلوح - والمثل الأعلى الذي ينشده عسير التحقيق، ولو تحقق لما أقام الناس عليه طويلاً، ولعادوا إلى المدنية راضين أو كارهين، فإن العقل من شأنه التفكير المتواصل، وليس في وسع قوة في الأرض أن تقيد عقول الناس، وتحرمها نعمة التفكير دواماً، وذلك وحده كفيل بتحقيق التطور الذي يرفع الإنسان من حالة الفطرة إلى مستوى المدنية، وروسو يقاوم أموراً يتصل بعضها بما يترتب على الغرائز من آثار، يطلب محو الملكية، والتزام القناعة، وعدم التقييد باختيار امرأة بعينها، ويزعم أن الناس بطبيعتهم أخيار أطهار، ويبني على هذا الأساس الخاطئ نظرياته التي ثبت اليوم بطلانها - كالعقد الاجتماعي مثلاً - تلك كلها أحلام عسيرة التحقيق، وقد نادى ببعضها أفلاطون في جمهوريته، وحسبنا أن نكشف عن ضعف نظرته إلى علاقة الرجل بزوجته، بتجربة نرويها كما نذكرها الآن: يقال إن تجربة أجريت على طائفة من القردة العليا لمعرفة نظام الزواج الراهن ومدى انطباقه على الطبيعة البشرية - كما أذكر الآن من أمر هذه التجربة - فجمعت القردة ذكوراً وإناثاً، وأتيح لها أن تعيش في مكان واحد، فلوحظ بعد فترة من الزمن أن كل قرد قد اختار له أنثى بعينها والتزم عشرتها، وتولى الذود عنها إزاء كل قرد يفكر في الاعتداء عليها، وكذلك كان موقف الإناث من ذكورها مع فوارق بسيطة، فانتهى الحال إلى ما يشبه النظام الذي شرعته الأديان وأقرته المدنيات.
وإذا صح هذا مع الحيوانات العليا فأحر به أن يكون صحيحاً مع بني الإنسان. ومثل هذا يقال في بقية الآراء التي خلفها لنا (روسو) وذلك - فيما يلوح - أظهر الفوارق بينه وبين (بيكون) فإن الكمال الذي يحلم به بيكون سهل التحقيق، وليس فيه مقاومة لغرائز الناس أو ما يترتب عليها من آثار. . .
ثم أي سعادة تلك التي يحتمل أن يشعر بها الرجل المتوحش الذي يعيش على إلهام الطبيعة ووحي الفطرة؟ إن (روسو) يتغنى بما يتمتع به الرجل من ألوان الحرية ونعيم الجهالة، ويشفق على المتمدين من القيود التي يكبل بها باسم النظام والمدنية ولكنه نسي أن هذا