المتوحش يعيش في أسر ذليل، تستعبده الأوهام، وتذله الخرافات، ويزعجه الخوف من كل شيء حتى من نفسه، ثم لا يشعر بعد هذا بالسعادة التي يحلم بها (روسو) حتى إذا عاش في غمرتها، ذلك لأن الشعور بالسعادة يتوفر لأصحابه إذا مروا بدورين: أولهما سلبي وهو انتفاء الشعور بالشقاء، وثانيهما إيجابي والشعور بالسعادة. أما الحالة الوسط التي يعيش فيها الرجل المتوحش، فينتفي عندها الشعور بالشقاء والسعادة معا، فإنها ليست من السعادة في كثير ولا قليل، ومن هنا يظهر بطلان الدعوة التي بشر بها (روسو) وعبر عنها (المتنبي) بقوله:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
ذلك وجه الخطأ في مهاجمة العلم وما يترتب عليه من آثار المدنية، والدعوة إلى الطبيعة وتوهم السعادة في ظلها. وقد تردى روسو في هذا الخطأ لأنه عاش في بيئة أنهكتها الأمراض والعلل، بالإضافة إلى فشله في عشرة الناس، وعدم ملاءمة طبيعته للمجتمعات، ولهذا أصاب في التمرد على أخطاء بيئته، ولكنه أخفق في علاجها إخفاقاً بيناً. ولعل (فولتير) كان على حق حين قال ساخراً منه: (لو أن الناس أصاخوا لآرائه، لسرهم أن يمشوا على أربع. . .!)
وقد عاش بيكون في بيئة عقلية يعوزها الاستقرار، فعرف داءها وشخص الدواء الذي يقتضيه علاجها، وقد تجد ما تؤاخذ به بيكون في تشخيص الدواء أو فهم الداء، ولكنك لا تملك إلا الاعتراف بتوفيقه، وقد انقضى على موته نحو ثلاثة عشر قرناً وثلاث عشر عاماً، وحققت الأيام الكثير من آماله، فأصاب العلم نجاحاً في أكثر الميادين، وعرف الإنسان كيف يعالج الطبيعة، ويتغلغل إلى فهم أسرارها ويعرف العلل الكامنة وراء ظواهرها والطرق التي تمكنه من استغلالها على أكمل وجه والانتفاع بها إلى أقصى حد، فقهرها على ظهر الأرض وفي أعماق البحار وفي أجواز السماء، وكاد يحيل المكان والزمان اسماً على غير مسمى. . .! إنه ينصت اليوم في مصر إلى توقيع الموسيقى في أمريكا، ويستطيع أن يتبادل الحديث وهو جالس إلى مكتبه مع أصدقائه أو عملائه في أقصى بقاع الأرض طرا، وتلك هي السيادة الموفقة على الزمان والمكان. . .
ولكن هل حقق هذا كله شيئاً من سعادة الناس؟ لقد أسفر نجاح العلم عن اختراع الغازات