بيدمنت حذو إخوانهم في الجنوب، فاندلعت نيران ثورتهم في صورة لم يجد ملكهم بداً إزاءها من اعتزال الحكم، فقد خشي من النمسا أن يمنح شعبه الدستور؛ واتسع نطاق الثورة حتى شملت لمبارديا نفسها وكانت تخضع مباشرة لحكم النمسا
ولكن النمسا ما لبثت أن ساقت جيوشها فقضت على الثورات وأرغمت الثوار على الفرار ونكلت بمن وقع منهم في يدها، وأثبت مترنيخ لساسة أوربا مقدرته على مقاومة هذه الحركات، وإنه لينسى أن القوة المادية مهما بلغت لن تقضي على القوة المعنوية، وإن هذه الثورات إنما تستعر كما تستعر الجمرات تحت الرماد؛ وهل كانت الحرية إلا تلك الشعلة التي لا تزداد مع الضرب إلا توقداً واشتعالاً؟
وكان الصبي يمشي صحبة أمة ذات يوم في أحد شوارع جنوة فوقعت عيناه على فلول من الهاربين كانوا في طريقهم إلى أسبانيا، ورأى معاني اليأس تلوح في وجوههم المصفارة، كما رأى آثار الإعياء بادية في أجسامهم المكدودة، وكان بعضهم لا يجد ما يقتات به وقد عضه الجوع أياماً
واستقر في خاطره هذا المنظر فما يبارحه قط، وتحرك اليوم خياله وعقله معاً، وأخذته حال من الهم صرفته عن كل شيء حتى باتت أمه تشفق مما ألم به، ثم أخذ يفكر في أسباب هزيمتهم ويتتبع أنباءهم حتى اهتدى إلى حكم؛ فقال وهو لا يدري أنه كان يعبر عن الواقع (لقد كان من الممكن أن ينتصروا لو أن كل فرد قد أدى واجبه)
وتعلق خياله بالكاربوناري ومبادئهم فما يلتفت إلى شيء سواها، وكان يومئذ في سن اليفاعة، سن الأحلام والآمال، سن التوثب والتطلع إلى المثل التي ينسجها الخيال ويفيض عليها من سحره ومن تلفيقه، وهو ذلك الفتى الذي اشتد خياله حتى أشرف به على المرض. أنظر إليه كيف آلى على نفسه أن يلبس السواد منذ ذلك اليوم الذي رآه اسود في خياله، فلن يبدل ثيابه السود بعدها حتى يلفه الكفن ويضمه سواد القبر
وهكذا ينضم الفتى إلى الكاربوناري بآماله وقلبه، ويتحرق شوقاً إلى اليوم الذي يجاهد فيه بين صفوفهم، ويستعذب معهم الألم في سبيل قضية الحرية والدستور
ويعود إلى كتبه بعد حين وقد انطوت نفسه على ما لن تقلع عنه بعد اليوم؛ وكم وجه سواه من العظماء وجهتهم حادث بسيط تقع عليه أعينهم فيرون فيه على بساطته مالا يراه