نفسه حتى أصبحت أغلى عنده من حياته؛ وما تهدأ تلك النفس التي تتنزى في أغلال الرجعية حتى يؤدي رسالته أو يهلك دونها، مهما يرى أمامه من جبروت ويلمس من بطش؛ ولكم سلح الحق الأعزال وحطم الإيمان السلاسل والأغلال
وكان الفتى منذ عامين قد اتصل بجماعة الكاربوناري وانضم إلى صفوفهم؛ وكانت تلك الجماعة لا تزال تضم إليها الأنصار في طول البلاد وعرضها، ولئن كان قد لحقها الوهن منذ ثوراتها عام ١٨٢٠، فلقد ظلت متماسكة، ولقد أخذت تنتشر حتى لقد جازت حدود إيطاليا وصار لها مراكز في القارة، وكان مركزها الرئيسي في باريس، حيث اتصل زعماؤها بالأحرار الناقمين على الملكية المتجبرة في فرنسا ملكية شارل العاشر، أو الكونت دا أرتوا ذلك الذي شهد بنفسه بالأمس القريب الثورة الكبرى ورأى مصير لويس المسكين فما اعتبر، بل طغى واستكبر، حين استوى على العرش وازدهاء التاج والصولجان.
ولكن جماعة الكاربوناري كان يعوزها المال والقيادة الحكيمة، وذلك ما كان يألم له مازيني أشد الألم، وكذلك كان يألم مازيني من اعتماد الجماعة على فرنسا فحسب إذ كان يرى - وما أجمل ما كان يرى - أن قوة الشعب إن لم تكن منبعثة منه فلا أمل فيها، وأساس الوطنية والجهاد القومي اعتماد الشعب على إيمانه وثقته في نفسه أولاً، ولا ضير بعد ذلك أن يتلقى العون من غيره؛ ولكنه إن اعتمد على غيره وكانت تعوزه العزيمة فليس له من أمل إلا أن يعينه ذلك الغير، وهذا أمر غير مضمون في كل وقت، وإذا كف ذلك الغير يده عظمت الخيبة وتسرب إلى النفوس اليأس
على أنه على الرغم من هذا كان يرى في الجماعة الهيئة الوحيدة التي تعتبر عنصر المقاومة والفداء، ولذلك لم يتردد أن يضع يده على خنجر عار ويؤدي القسم على تنفيذ ما يأمر به؛ وكان من نظام الجماعة ألا يعرف العضو رؤساءه، وإنما يعرف زميلاً أو زميلين، ولقد أخلص مازيني لمبادئ الجماعة ونمى أمر إخلاصه وحماسته إلى رؤسائه القريبين، فأوفد من قبلهم إلى بعض الجهات مبشراً بتلك المبادئ عاملاً على ضم أعضاء جدد إلى الكاربوناري. . .
ورجفت الراجفة في فرنسا فأطاحت بالملك المتجبر عام ١٨٣٠؛ فرأى للمرة الثانية الدليل العملي على أن قوة الشعوب قد باتت أمراً يجدر بكل حاكم أن يحسب له ألف حساب؛ وأن