(لا أنكر أن كثيراً من الشعراء اتخذوا مدح الملوك والأمراء وسيلة من وسائل العيش، ولا أنكر أن كثيراً منهم وصل بذلك إلى أسفل دركات الاسفاف، واصرِّح بأن من النقائص النفسية أن يسخر الشعر تسخيراً في سبيل المنافع الزائلة، وأعترف بأن هذه النقيصة تمسُّ كثيراً من شعراء اللغة العربية، وإن كان من أسباب العزاء أن هذه النقيصة لم يتفرد بعارها شعراء العرب فقد كان أكثر الشعراء في أوربا يعيشون عالةً على الملوك والأمراء ولم يعرف منهم باستقلال الشخصية إلا القليل. ولكني - مع هذا - أقول بأن المديح ديوان العرب، وهو الوثيقة الباقية على ما كان فيهم من كرم الشمائل والخصال. والمادحون قد يكذبون، ولكنهم في كذبهم يصورون ما اصطلح عليه معاصروهم من ألوان المحاسن والعيوب، فالشاعر الكاذب يقف كذبه، عند حقيقة ممدوحه، ولكنه من الوجهة الاجتماعية صادق كل الصدق، لأنه يصور ما يتشهى ممدوحه أن يتصف به من كرائم الخلال).
وهذا البحث كان من البحوث التي راعت الأستاذ المازني وكان نُشرَ في جريدة البلاغ قبل أن يُضم إلى الطبعة الثانية من كتاب البدائع.
وقد رأى الأستاذ أحمد أمين أن ينهب الشطر الأول من الفكرة ويغفل الشطر الأخير، لأن الشطر الأخير فيه توجيه لمدائح الشعراء وهو حريص على طمس محاسن أولئك الشعراء.
وعاب أحمد أمين على العرب أن يلتزموا افتتاح القصائد بالنسيب وأن يتنقلوا بهذه العادة من جيل إلى جيل، في حين أن الشاعر قد لا يكون مشبوب العاطفة في كل حين.
وهذا الكلام مسروق من مقال أرسلته من باريس سنة ١٩٣١ وفيه أقول:
(لقد درج شعراء اللغة العربية منذ الزمن القديم على افتتاح القصائد بالنسيب، وتلك طريقة لها محاسن ولها عيوب: فمن محاسنها أنها تمهد للشاعر طريق الكلام، وهي بذلك أشبه بالموسيقى تتقدم الغناء ليثور قلب المغنِّي ويُرهَف إحساسه للتلحين والتطريب. ومن مساويها أنها تفرض على الشاعر ما لا قِبَل له باحتماله من التغني بعواطف قد تكون خمدت في صدره منذ أزمان. على أن الشعراء الأقدمين قد التزموا هذه القاعدة حتى وصلت ببعضهم إلى الإسفاف، وحسبُ القارئ أن أذكر له أن من الشعراء الماضين من كان يفتتح