زعيمهم، كانوا كل شيء؛ استأجروا داراً صغيرة وراحوا يعملون ليل نهار لتحقيق مبادئهم! أيكون في تاريخ الجهاد أغرب من أن يعتزم ستة من الفتيان يعوزهم المال والجاه توحيد شعب ممزق وتحريره من سلطان دولة عانية مسيطرة؟ ولكن الشباب إذا آمن لا يعرف المستحيل، فليشمر هؤلاء الأبطال عن سواعدهم وليسهروا الليالي في الكتابة ومراسلة من يريد أن ينضم إليهم حتى تكل أبصارهم فيناموا بعض ساعات ثم ينهضوا للعمل يحدوهم الأمل؛ وليوح إليهم زعيمهم بالصبر ويبث في قلوبهم الإيمان، فهذا أجدى عليهم وعلى حركتهم من الجاه والمال.
هكذا بدأ مازيني وحواريه، فسرعان ما انضم إليهم الانصار، واجتمع لهم بعض المال فأنشئوا صحيفة يذيعون بها آرائهم ومبادئهم. وشد ما فرحوا بهذا واستبشروا به! وكان مازيني يحرر أكثر أجزائها وحده فيبث فيها من روحه؛ وكان أصحابه يحتالون، وقد تكاثر عددهم وعدد مريديهم على تهريب تلك الصحيفة إلى إيطاليا كما كانوا يهربون إليها بين حين وآخر بعض المطبوعات الصغيرة التي توحي إلى القراء مبادئ الجمعية وتعلمهم دروس الوطنية.
وأقبل مازيني وحواريه على العمل، يزدادون نشاطاً وهمة كلما ازداد عدد أنصارهم. وانقضى عام فرأى الزعيم الشاب ما شرح صدره وملأ نفسه بما تمتلئ به نفس المؤمن من نشوة الظفر، فللجمعية مراكز في شمال إيطاليا ووسطها، وأعضاؤها يبلغون في إيطاليا وخارج إيطاليا مائة ألف أو يزيدون! وهذا نجاح جاء أكثر مما كان يتوقع.
وتقع عين مازيني على أسماء الأعضاء وأعمالهم في ثبت سرى فيسره ويثبت فؤاده أن يرى فيهم بعض النبلاء وبعض الضباط، حتى القساوسة يجد أسماءهم بين المجاهدين! وتطيب نفسه بذلك ويحلو له الجهاد وتلوح له بوارق الأمل فتسهل الصعب وتقرب البعيد.
وكان ممن انضموا إلى الجمعية رجل سوف يكون له في تاريخ وحدة إيطاليا وحريتها شأن عظيم، ذلك هو غاريبلدي المجاهد البطل والفدائي الأروع الذي جمعت حوله سجاياه العذبة وشجاعته الفائقة قلوب الرجال.
وراح الزعيم ينشر تعاليمه ويرسم خططه. استمع إليه كيف يقول لأنصاره: (اصعدوا الجبال واذهبوا إلى القرى وشاطروا العمال والفلاحين طعامهم المتواضع، وجالسوهم