وارتأى أنه لا يحول بين المرء وبين التأثر الجميل بالقطعة الشعرية، وأنه منار للاعجاب ومبعث للسرور، وما إلى ذلك.
والعجيب كل العجب أن الأديب الفاضل لم يبتعد كثيراً عن غموضه الجميل الذي شبهه بالسدول الرقيقة التي يرخيها الضباب على الطبيعة، حتى أخذ يسرد لنا أسبابه وبشرح علته، فقال: إن كثيراً من الغموض يرجع أسبابه الى فقر اللغة وقصورها في الافصاح عن عواطف الشعراء وميولهم؛ ثم أردف هذه الأسباب بأخرى وهي تعقد الحياة النفسية وإبهامها وغموضها، ثم انتهى الى أن هذا الغموض سيظل مسيطراً على الشعر حتى تتضح الحياة النفسية.
أما قصور اللغة في الافصاح عن بعض الحوادث النفسية الدقيقة فأمر لا ننكره ولا ينكره أحد من الناس، ولكن ذلك لا يعني بأن الشعر الغامض يجب أن يكون منطوياً على جمال رائع، وفن بديع، ولا يسوغ لنا أن نعتبر الكلام المرتبك الغامض شعراً كما أنه لا يجوز لنا أن نعتبر الناظم الذي لا يوفق لتصوير خوالج نفسه وعواطف روحه وانفعالاته شاعراً مبدعاً
واذ القيت نظرة متأمل الى ضروب الشعر الوجداني والعاطفي تبين لك أن بين هذا الشعر ما قد تمكن من أن يصف لك أعمق العواطف البشرية وأدقها بأبرع اسلوب وأتم بيان، ومنه ما كان بالفاظه وتعابيره أشبه بالاحاجي والالغاز منه بالكلام المفهوم
وقد يجوز أن تجيش في نفس الانسان بعض الخواطر البديعة والمشاعر الرائعة، وقد يجوز أن يحتدم جيشانهما في أعماق نفسه فيضطرب شعوره بها ويظهر هذا الاضطراب ويفيض من جوانحه الى جوارحه فيصبح على أشبه ما يكون بثورة نفسية، ولكنه مع ذلك لا يستطيع أن يظره لغيره، ما تكنه نفسه لأنه ليس بشاعر ليتمكن من التوفيق بين الكلمات والتأليف بين التعابير والمصطلحات اللفظية التي تحمل الى نفوس الناس وافهامه ما خالج نفسه وما أثار شعوره وإحساسه، أو لأنه ليس برسام ليستطيع أن ينقل بريشته الوان تلك الصور والأشكال التي تأثرت بها نفسه، أو لأنه ليس بالفنان الذي يستطيع أن يستخدم وسائل فنه لتصوير ما جاشت به نفسه ووصف ما اضطرب له حسه.
فان شعوره ولا شك يبقى مطموراً في باطنه، ولا يمكن البتة أن يتأثر احد سواه بما تأثر به