للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

العالم، فكانوا يعرضون على من يلقون خصالاً: أولاها أن يدخل في الإسلام فيكون واحداً منهم له ما لهم وعليه ما عليهم، لا يفرق بين المسلمين اختلاف لون ولا تباين لسان، ولا يفضلون عربياً على عجمي إلا بالتقوى؛ فإن أبى رحمة الله وكره دين الحق، عرضوا عليه الثانية وهي أن يدفع الجزية فيكون له ذمة الله وذمة رسوله وذمم المسلمين، ويكون في حرزهم وكنفهم، حقه محفوظ له، وحريته مضمونة ومعابده قائمة، وإن تعدى عليه مسلم انتصف له منه، ثم إن الجزية شيء لا يكاد يذكر، دراهم قليلة هي دون ما على المسلم من زكاة أو عشر أو غير ذلك، ثم إنها يعفى منها الصبي والشيخ العجوز، والراهب المتعبد، فإن أبوها فقد آذنوا بالحرب. وكذلك فتحوا البلدان، فلم تكن إلا سنوات حتى تغلغل الإسلام في أقاصيها. ولم يمض القرن حتى غدت بلاد العجم كلها مسلمة الدين، عربية اللسان، ونشأ من كل مدينة فيها علماء فحول كانوا أئمة الدين وكانوا أعلام الأدب وكانوا مصابيح الهدى، وحسبك بالبخاري والرازي والطبري والمروزي والتبريزي والجرجاني والأصفهاني والقزويني والفيروز آبادي ممن نشأ في بخارى والري وخراستان ومرو وتبريز وجرجان وأصفهان وقزوين وفيروز آباد. ممن كان من أصل عربي أو كان من أرومة فارسية كأبي حنيفة وسيبويه والحسن وابن سيرين والزمخشري، من العلماء أو من الأدباء كابن المقفع وبشار وأبي نواس وابن الرومي، ولم يكن فيهم من يرضى أن تقول له أنت أعجمي يخدم العربية، بل هم لا يرون أنفسهم إلا عرباً، ولا يجدون شتماً أبلغ من أن تقول لواحدهم (أنت شعوبي) قال الزمخشري أستاذ الدنيا جار الله في مقدمة مفصله: (الحمد لله على أن جعلني من علماء العربية، وجبلني على الغضب للعرب والعصبية، وأبى لي أن أنفرد عن صميم أنصارهم وأمتاز، وأنضوي إلى لفيف الشعوبية وأنحاز، وعصمني من مذهبهم الذي لم يجد عليهم إلا الرشق بألسنة اللاعنين والمشق بأسنة الطاعنين).

وسبب ذلك أن الإسلام امتاز من سائر الأديان، بأنه دين وقومية جامعة، وأنه سياسة وإنه تشريع (ولما كان الإسلام ديناً وجنسية، وقد رفع الحدود بين الأمم اللاتي تدين به، وكره أن يدعى فيها بدعوة الجاهلية، وجعل أصحابها جميعاً إخواناً يؤلف مجموعهم كتلة واحدة لا فضل فيها لعربي على عجمي إلا بالتقوى، ولما لم يكن بد للمجموعات البشرية من رابطة تتعصب لها وتعتصم بعروتها، فإنه وهو دين التوحيد ودعوته للاتحاد. . . كان لابد

<<  <  ج:
ص:  >  >>