قال بحروفه. ولعلي راجع يوماً فراوٍ حديث النحو، أو لعل الأستاذ البيطار يرويه بنفسه ليعلم القراء أننا نصف مجلساً قد كان حقا، ً لا نتخيل ولا نبالغ. . .
قلت له: كيف أنت والشعر؟
قال: أما ما قالت العرب فأني أرويه كل لا أخرم منه شيئاً، وأما ما قال المحدثون بعد إذ فشا اللحن في الأمصار وعمت (فيما بلغنا) العجمة فلا أعرف، ولا أرضى لنفسي روايته، لأن أصحابه أفسدوا على العرب ديوانهم، وجاءوهم بما ينكرون من القول
قلت: ولكنك رجل عادل حصيف، أفلا تسمع قول هؤلاء المحدثين قبل أن تحكم عليهم؟
قال: بلا والله أني سامعُ فأنشدني
فنظرت فكأن الله محا الشعر كله من قلبي إلا أبياتاً لأبي تمام في وصف الربيع نرويها للتلاميذ. فأنشدته إياها وفي ظني أنه لا يرضى عنها، بأنها ليست مما ألف، ولو أنشدته لغير أبي تمام أو أنشدته لأبي تمام غيرها، لكان ذلك أدنى إلى رضاه، ولكن ماذا أصنع وقد نسيت كل ما جاوزها من الشعر؟ قلت:
مطر يذوب الصحو منه وبعده ... صحو يكاد من الغضارة يمطر
غيثان فالأنواء غيث ظاهر ... لك وجهه والصحو غيث مضمر
فرأيته قد طرب لها طرباً لم يخفه وصفق يداً بيد من الإعجاب وتمايل فقلت وقد قويت نفسي: كيف سمعت؟
قال: لقد أحسن وجاء بما لم يسبقه إليه سابق، وما أحسبه يلحقه فيه فيدرك شأوه لا حق: لقد عرف الناس ثلجاً يذوب، فأذاب لهم الصحو حتى سال ماء، ثم عاد فجعل الصحو من طراوته كأنه يمطر، فلم يخلهم في المطر من صحو ذائب، ولا في الصحو من مطر. ثم أصل وفرع، فجعل من الغيث ظاهراً ومضمراً، وما يكون مضمر إلا وثمة ضمير، ولا ضمير إلا في حي، أفلا تراه كيف أسبغ الحياة على الجماد؟ قلت: هذا مذهب في الشعر يعرفه أهل زماننا ويحسبون أنهم ابتكروه. . . يعطيك صورة جميلة ولكنها ليست بنية الحدود ولا واضحة المعالم، فأنت تستمتع فيها بكشف المجهول، وهو لعمري أصل الآداب، وأقوى الغرائز، ثم تملأ فراغها بعواطفك وتجعل حدودها من أفكارك، فتكون كأنك صغتها لنفسك، وتفهم منها ما لا يفهم سواك.