وما لبث أن جاءته الأنباء عام ١٨٥٢ عن ثورة تدبر في ميلان ضد النمسا بين صفوف العمال وكان في هؤلاء كثير من شيعته، فخف إليهم متنكراً حتى صار على مقربة منهم، ولكن ثورتهم كان نصيبها الفشل السريع، فاضطر الزعيم إلى العودة إلى إنجلترا وفي نفسه من الألم والحزن والشعور بالخجل ما جاء عبأ جديداً فوق أعبائه؛ ولقد حملت عليه صحافة بيدمنت حملات عنيفة وحملته مسؤولية هذه الحوادث وما ذهب فيها من ضحايا، فازداد بذلك حنقه على الملكيين وتوالت حملاته هو أيضاً على خطتهم وعلى زعيمهم. وظل في إنجلترا يتربص ويتصل بشيعته في وسط إيطاليا وشمالها؛ وقد عقد النية على بعث ثورة كبرى في الوسط والشمال تكون أبلغ رد على الملكيين، وتكون قائمة على أساس وحدة إيطاليا وطرد النمسا وإقامة الحكم الجمهوري في إيطاليا الموحدة؛ واتصلت أسباب المودة بينه وبين قنصل أمريكا في لندن ومناه القنصل بمعونة حكومته أن كان من أكبر دعاة الديموقراطية في أوربا.
وذهب مازيني عام ١٨٥٤ متنكراً إلى باريس ثم إلى إيطاليا حيث كان يلتقي سراً بأنصاره ويوحي إليهم من خططه ما يوحي، وكان يقضي أكثر وقته في جنوة، وكان تنكره يحير الشرطة ويزعجهم، وهو في الحق يعد من أغرب نواحي كفاح ذلك الرجل الذي قضى في الجهاد إلى ذلك الوقت أكثر من ثلاثين عاماً بين اغتراب وسجن اختياري وتنكر، فما صرفه هذا العذاب عن وجهته وما قعد به الجهد عن غايته، الأمر الذي يكفي وحده لأن يسلك هذا الرجل العظيم في سلك أكبر زعماء الحرية في جميع العصور ويلحقه بالشهداء والقديسين الذين وهبوا أرواحهم لخير الإنسانية.
وبينما كان مازيني يعد العدة لثورته الجديدة كان كافور يمشي إلى غايته بخطى حكيمة تضعه هو أيضاً في صف أعاظم الساسة في تاريخ الأمم؛ انتهت إلى كافور رياسة الحكومة في بيدمنت عام ١٨٥٢ فجعل أولى خطاه إصلاح مرافق الولاية والنهوض بماليتها وبناء قوتها الحربية على أساس متين، ولما تم له ذلك على خير ما يرجى أخذ يخطو خطاه السياسية وكانت تتجه إلى مكافحة النمسا بالأساليب الدبلوماسية أولاً ثم بالحرب آخر الأمر؛ على أن يكون بدء الحرب من جانب النمسا فتكون هي المعتدية، ويعتبر مسير كافور إلى غايته من أجمل وأقوى الحركات في تاريخ السياسة الدولية.