حنق مازيني على كافور أشد الحنق لانضمامه إلى نابليون؛ إذ كان الزعيم لا يؤمن بغير قوة الشعب، ويخشى كما خشي في أول سني جهاده من الاعتماد على قوة خارجية قد يأتي من جانبها الخذلان بدل النصر؛ وكان الخصام قد بلغ أشده بينه وبين كافور منذ عام ١٨٥٧، ففي تلك السنة فكر كافور في بعث ثورة في مودنيا وقابل مازيني شخصياً في جنوة لهذا الغرض، ووعده مازيني بالمساعدة؛ وفي العام التالي رأى مازيني أن تكون الثورة في الجنوب أيضاً في صقلية ونابلي، وكان قد أعد عدته لذلك؛ ولكن الحكومة في بيدمنت أساءت فهم أغراض الثوار في جنوة فحسبتهم يعملون لإقامة الجمهورية وإسقاط الملكية، فشتت شملهم وأصدرت ضد مازيني ونفر من أصحابه حكماً غيابياً بالإعدام.
ولما خذل نابليون كافور استقال هذا من منصبه؛ فجاء مازيني إلى إيطاليا وإنه ليرجو أن يبعث الثورات الشعبية في ولايات الوسط والجنوب عسى أن يصل بها إلى تحقيق ما عجز الزعيم السياسي عن تحقيقه، واختفى الزعيم الشعبي الكبير عند حاكم تسكانيا من ولايات الوسط، فقد كان هذا الحاكم يجله ويؤمن مثله بالوحدة وإن لم يأخذ إخذه في الاعتماد على الثورات؛ وحاول مازيني أن يضمه إلى رأيه فلم يفلح.
وأخذ الزعيم في مخبأه يتصل بأعوانه ويحثهم على النضال؛ وكان يرمي إلى اكتساح الولايات البابوية أولاً ثم يسير منها الثوار إلى ولاية نابلي فيتم بذلك توحيد نصف إيطاليا الجنوبي؛ وكان كافور بينه وبين نفسه يعطف على هذه الحركة ويتمنى نجاحها لتكون أجمل رد على النمسا وفرنسا؛ وفرح أن يسمع عن مازيني أنه يدعو إلى ترك الخلاف الحزبي والعمل للوحدة فحسب، بل لقد كان لا يرفض يومئذ ضم الولايات الجنوبية إلى بيدمنت.
ولكن حاكم تسكانيا خاف من بقاء مازيني مختبئاً عنده، ففي تهديد ولايات البابا ما يدعو إلى تدخل النمسا، ولذلك طلب إلى مازيني أن يرحل فلم يسعه إلا الطاعة، وخرج وإنه ليأسف الأسف كله أن يعامل هذه المعاملة من بني وطنه وأن يكون في إيطاليا سجيناً وهو ما يجاهد هذا الجهاد الهائل إلا من أجلها، ولكنه تعود الألم وألف الصبر في هاتيك السنين الطويلة؛ واتخذ الزعيم سبيله إلى إنجلترا من جديد.
ومتى يهدأ هذا الثائر المجاهد؟ إنه لن يعرف الهدوء حتى تتحقق آماله أو يموت، ذلك ما عقد النية عليه من أول الأمر، وذلك ما درجت عليه نفسه الحرة وصمد له قلبه الكبير.