ولعل السذاجة في الدين هي التي جعلت هذا الشعب ساذجاً في قصصه، لأن ما ترويه ملحمته الطويلة ليس سوى حكايات أطفال وهو وجه الغرابة فيها، وهو أيضاً ما يجعلها في أكثر الأحيان عذبة جذابة. إن الأطفال إذا وضعوا قصة جاءت لا رأس لها ولا ذنب، كما يقولون، أو لا أول لها ولا أخر، لأنها تعتمد على المفاجآت الغريبة والأعمال العجيبة أكثر مما ترمي إلى أي غرض آخر. ويظهر أن خيال الشعوب في عصرها البدائي لا يختلف عن خيال الأطفال الصغار.
وهناك ظاهرة أخرى تجعل ملحمة (كاليفالا) تختلف عن غيرها من الملاحم. ذلك أن الملاحم القديمة كالإلياذة والأوديسة وغيرهما ترمي إلى غايات مقررة لأنها وليدة مدنية قائمة، بينما لا نجد في الملحمة الفنلندية شيئاً مثل هذا، لأن قصصها وليدة خيال ساذج جامح، بحيث نبحث فيها عبثاً عن رمز للناس والأشياء والآلهة والديانة والأخلاق.
على أن أجزاء من هذه الملحمة تحوي اعتقادات الشعب الفنلندي وتصف العواطف الأصلية في قلب الإنسان.
وقصة الخليقة كما جاءت فيها قطعة لها نضارة الشباب وسذاجة القلوب الطاهرة، وهي تصف في مستهلها العذراء (أيلماتار) إلهة الهواء تزوجت من الموجة وظلت تتقاذفها الأمواج في وسط المحيط العظيم حتى جرى مما ننقله عن الترجمة الفرنسية:
(جاء طائر جميل من نوع البط فطار محلقاً باحثاً عن موضع ليبني فيه عشه. . . فطار شرقاً وغرباً، وطار جنوباً وشمالاً، فلم يقع على موضع يبني فيه عشه الصغير ومسكنه الجميل
طار طويلاً محلقاً في الفضاء يفكر قائلاً (ترى هل أضع عشي على متن الهواء، أم أبني بيتي على صفحات الماء، فيذرو الهواء عشي، وتتقاذف الأمواج بيتي
(عندئذ أخرجت عذراء الهواء وأم الأمواج الجميلة من الخضم الواسع ركبتها متيحة بذلك مكاناً للعصفور ليبني فيه عشه العزيز.
(كان العصفور الجميل لا يزال محلقاً فرأى ركبة العذراء قائمة على صفحات المياه الزرقاء كأنها قطعة أرض معشبة
(فخفف من طيرانه، وحط على الركبة فبنى عشه، ووضع فيه بيضه، وكانت ست منها