وأشرق صبح اليوم الموعود، فبكرت إلى ما غرمت عليه يصحبني تابع يحمل حقيبتي، ويصحبني شيطاني!
وكان بيني وبين كتاب سيدنا خطوات معدودة حين صك مسمعي صراخ! ودنا مني الصوت رويداً رويداً، وسمعت الناعي ينعى إلى أهل القرية سيدنا الشيخ عبد الجليل!
ما أعجب القدر!
وظللت في القرية طول اليوم حتى أمشي في جنازة سيدنا. . . وما كان لي أن أفعل غير ذلك. . . وأعظم الناس هذه الوفاء، إذ حسبوني لم أقدم إلا لذلك، بقدر ما صغرت نفسي في عيني!
ومشت القرية كلها في جنازة الشيخ، لم يتخلف منهم أحد، وشيعوه محزونين وعادوا يعدّ دون مآثره لا يذكره أحد منهم بشر!
وعدت إلى مكتبي في المدينة مبكراً، فلم ألق أحداً من الزملاء أحدثه بحديثي؛ وجلست وحدي أنشر الذكريات وأطويها، وفي نفسي ثورة تضطرم، وفي رأسي غليان. لم يكن بي في تلك اللحظة حقد على أحد، لا، ولا كانت لي أمنية أحرص عليها؛ ولكني إلى ذلك كنت في حيرة من أمري، أسائل نفسي: أكنت على حق في حقدي على سيدنا وما أضمر له من البغضاء، وهل كان من السوء بحيث يحق لي أن أحمل له ما كنت أحمل من الكره والموجدة؟
لكم كان لسيدنا على هذه القرية من الأيادي!. . . لقد كان قاسياً، جباراً، عنيفاً؛ ولكنه مع ذلك كان رجلاً للناس لا لنفسه؛ وما نالتْه في يوم ظنة ولا تعلقت به تهمة، فما يذكره أحد من القرية إلا بمعروف أداه أو جميل أسداه، سواء في ذلك أهل العلم من تلاميذه وأهل التوكل والاعتماد!
. . . فإني لغارق في خواطري وذكرياتي، إذ دخل إليّ صديق من أصدقائي ينقل إليّ النبأ الفاجع:
(فؤاد ابن صديقنا فلان. . . لقد تعجل آخرته فأزهق نفسه؛ لأن أباه أغلظ له النصح أن يكون رجلاً، ودعا حلاقاً فقص له شعره. . . وعز على الفتى ما فعل أبوه، فأغلق عليه غرفته فأحرق نفسه. . . هذه هي التربية الناعمة التي نحاول بها تنشئة الجيل الجديد