وقد ساق الدكتور طه حديثه عن المروءة ساخراً من هذا الجيل الذي طبع على سفاسف الأخلاق، وتحطمت عنده مكارم الإنسانية النبيلة، وامتاز عظماؤه وصغاره باعتبار الأخلاق ضرباً من التجارة يلبِّسها الغش والخلاب والمواربة وتلقي التاجر للبائع بالدهان حتى يكون هو في باطنه أظلم شيء، وظاهره يتلألأ بمعاني الشرف والأمانة والنزاهة وإرادة الموافقة وتغليب منفعة المشتري على منفعته، وغير ذلك من حيل التُّجار والسماسرة. فأراد أن يمزح، فيدعو إلى اقتراحه إنشاء مدرسة للمروءة ليسخر من (تنازع الاختصاص) في وزاراتنا بل في أعمالنا كلها. وهذا كله في مدرجه جيد لا يحاول أحد أن ينازع عليه أو يختلف فيه، ولكن التهكم في هذا الدهر المائج بصنوف العذاب والبلاء لا يكاد يجدي شيئاً في الإصلاح. وهل يظن الدكتور طه أن كل هؤلاء الذين أقامتهم الأمة المسكينة على حياطة شؤونها ومرافقها وأسباب عيشها - لا يستشعرون من ذلك ما نستشعر، ولا يجدون من معانيه مثل الذي نجد؟ أجل؛ ولكنهم كالذي يصف هو فيما ساق من الحديث، فمن أين يأتي الشفاء إذا كان كلُّ الطبيب هو بعض المريض! إن أعمال الإصلاح الكبرى لن تأتي من وزارة الشؤون الاجتماعية، ولا وزارة المعارف، ولا غيرهما إذا بقي الشعب ينظر إلى هذه كلها ليرى ما تعمل. والرأي لا يمكن أن يتجه في هذا الأمر إلى تسديد وزارة المعارف ووزارة الشؤون الاجتماعية وتوقيفها على ما يجب عمله باقتراحات ومذكرات وبيانات. . . إلى آخر هذه الجموع. إن عمل الإصلاح الآن موقوف على شيء واحد، على ظهور الرجل الذي ينبعث من زحام الشعب المسكين الفقير المظلم يحمل في رجولته السراج الوهَّاج المشتعل من كل نواحيه، الرجل المصبوب في أجلاده من الثورة والعنف والإحساس بآلام الأمة كلها، وآلام الأجيال الصارخة من وراء البنيان الحي المتحرك على هذه الأرض الذي يسمى في اللغة (الإنسان). وليس ظهور هذا الرجل بالأمر الهين، ولا إعداده بالذي يترك حتى يكون؛ بل هنا موضع للعمل وللإنشاء. وكبر ذلك مُلقىً على الأدباء والكتاب والشعراء، وعلى كل إنسان يحترم إنسانيته؛ فالأدباء ومن إليهم قد وقع عليهم التكليف أن يرموا بما يكتبون إلى إيقاظ كل نائمة من عواطف الإنسان، وإلى إثارة كل كامنة من نار الهداية المحاربة التي لا تخمد، ولا يكون ذلك شيئاً إلا بأن يعد كل أحد